ياسين الحاج صالح: "ليس ثمة بلد أرأف بنا من هذا البلد الرهيب"
١٧ يوليو ٢٠١٤"بلدنا الرهيب" فيلم يصور الرحلة محفوفة المخاطر التي قام بها الكاتب السوري المعارض ياسين الحاج صالح، ابتداء من مدينة دوما في الغوطة الشرقية ووصولاً إلى الرقة الواقعة شمال سوريا ومن ثم إلى تركيا، لينتهي بذلك الفيلم ولتبدأ حياة المنفى. فيلم "بلدنا الرهيب" للمخرجين زياد الحمصي وعلي الأتاسي فاز مؤخرا بالجائزة الكبرى لمهرجان مرسيليا السينمائي الدولي. وفور وصوله إلى إسطنبول ساهم ياسين الحاج صالح مع آخرين في تأسيس البيت الثقافي السوري "هامش".
DW عربية التقت ياسين الحاج صالح وكان هذا الحوار:
DW عربية: في البيان التأسيسي لمشروع "هامش" الثقافي قلتم إنه يريد "توفير فسحة مفتوحة للأصوات المقموعة وغير المسموعة، دون أن يسعى إلى أن يكون متنا مهيمنا بديلا، ينتج هوامشه الجديدة ويطمسها". كيف يمكن تحقيق ذلك من تركيا ومن اسطنبول تحديداً؟
ياسين الحاج صالح: الكلام الوارد في بيان "هامش" يفترض سلفا أننا في "المنفى". على أرضية شرطنا كمُهجّرين من بلدنا، نعمل على بناء الفسحة المفتوحة على المبادرات والأصوات الهامشية في المهجر التركي. لم نحقق اختراقات مهمة بعد، لكن أسهمنا في إطلاق نقاش بين سوريين، وبين سوريين وأتراك، ووفرنا مساحة لمبادرات شباب سوريين وتواصلهم. وأثرنا اهتماما معقولا في وسط الجمهور التركي المشتغل في الشأن العام. وأعتقد أنه لنا أثر يتسع في في إخراج صورة السوري في تركيا من المنفي المسكين المحتاج إلى مساعدة الآخرين له، إلى الشخص النشط الذي يعمل على إعادة بناء هويته ودوره وقضيته في شروط مغايرة وصعبة.
ما هي القيمة المضافة لهامش كمشروع سوري في إسطنبول، أي بعيدا عن المراكز الكبرى لتجمع السوريين قرب الحدود السورية التركية؟
هامش أداة للعمل الثقافي التحرري، وإطار للشراكة مع مشتغلين في الثقافة والفن من تركيا. هذا عنصر أساسي في هوية البيت الثقافي السوري في اسطنبول. نريد شركاء من البلد الذي نعيش فيه، لا نريد أن نعيش في غيتو يخصنا كسوريين نتكلم مع بعضنا ونستمع لبعضنا ونتخاصم مع بعضنا، ونبقى أسرى مونولوغنا الخاص. نريد ديالوغ، أخذ وعطاء مع أهل البلد هنا.
في الوقت نفسه لا نريد أن تقتصر علاقتنا مع المجتمع في تركيا على الحكومة كما تفعل الأجسام السياسية المعارضة هنا. يصادف أننا نعيش في إسطنبول، لكن نتطلع إلى توسيع مجال نشاطنا وإقامة بعض الأنشطة في مناطق الكثافة السورية من تركيا. تحول دون ذلك حاليا إمكاناتنا البشرية والمادية المحدودة.
تم تأسيس هامش في 17 آذار 2014 أي بعد وصولك لإسطنبول وانتهاء تصوير الفيلم والأحداث الدرامية والمتسارعة في سوريا، هل إسهامك في تأسيس"هامش" هو ملء لأي فراغ افتراضي في المنفى؟
"هامش" ليس مشروعا شخصيا لي أملأ به فراغا افتراضيا أو واقعيا. مجموعة "هامش" مكونة من سوريين وأتراك، تجمعنا قضية عامة، ونحن منخرطون في الصراع من أجلها. حين تأسس "هامش" بعد 3 سنوات من الثورة لم يكن في تركيا عمل سوري عام بأدوات الثقافة. وأكثر من ملء فراغ كيفما اتفق، أردنا تطوير مفهوم ثوري للثقافة، ثقافة ملتزمة اجتماعيا، ومنخرطة سياسيا، ومنحازة لقيم تحررية وتغييرية، ومولدة للأسئلة ومحرضة للنقاش في تركيا، حيث نعمل، وفي العالم.
يبقى صحيحا أنه، من ناحية شخصية، كل ما أقوم به أو أساهم فيه في المهجر هو جهد للتغلب على الانفصال عن البلد.
ما هي دوافعك للمساهمة في هامش دون غيره من المشاريع السورية؟
أفضل العمل العام بأدوات الثقافة. وعدا عن كونه يوافق استعداداتي، يبدو لي أكثر خصوبة وأغنى بالوعود. لكن ليس الثقافة المنعزلة، ليس الثقافة التي تنصب حواجز عالية بينها وبين السياسة. الثقافة نفسها سلاح من أسلحة الصراع الاجتماعي والسياسي. أظن أن أحد جوانب مشكلتنا في سورية هو افتقار السياسة إلى بعد ثقافي من جهة، وافتقار الثقافة إلى إدراك الطبيعة السياسية العميقة لمشكلاتنا.
في"هامش" نحاول تجاوز هذا الأمر. نحن كلنا ضد المفهوم السياحي للثقافة، وضد المفهوم الثقافوي المنعزل للثقافة، لكننا كلنا ضد المفهوم السياسوي للسياسة أيضا. نعمل من أجل مفهوم للسياسة متطور الأبعاد الفكرية والأخلاقية، ومن أجل مفهوم للثقافة حساس سياسيا واجتماعيا، ومنخرط في الصراع من أجل الحرية والعدالة.
لماذا غامرت بتصوير فيلم "بلدنا الرهيب" رغم المخاطرة الكبيرة التي سبقت ولاحقت ورافقت تصويره من خطف لزياد، عدم الأمان طيلة الرحلة، ولأنك كنت مطلوبا بشكل شخصي وأخيرا اختطاف زوجتك سميرة؟
لم يكن في الأمر مغامرة وقت تصوير الفيلم. والتصوير لم يزد الرحلة غير الآمنة فعلا قلة أمان. اختطاف زياد جعل المادة المصورة أكثر تركيبا و"درامية". ثم جاء اختطاف سميرة ورزان (زيتونة)، وقبلهما أخي فراس وكنا وقتها على الطريق من الغوطة إلى الرقة، واعتقال والد زياد من قبل النظام شكل خلفية للرحلة. ثم اكتسبت بعدا تراجيديا من اختطاف سميرة ورزان.
لم أر الفيلم في نسخته الأخيرة، لكن يبدو لي أن علي وزياد (مخرجي الفيلم) استطاعا بناء الرحلة التي قادت إلى"المنفى" على نحو يحمل توازيات كثيرة مع القصة السورية.
في أحد تصريحاتك هذا العام أكدت على "ضرورة تقوية التيار العلماني لإجبار التيار الإسلامي على الاعتدال"، هل هذا الكلام مازال ساري المفعول اليوم بعد تزايد قوة التيارات الإسلامية المتشددة في المنطقة وخاصة سوريا؟
كلامي الوارد في السؤال ورد في سياق الاعتراض على مطالبة أحد المتكلمين في جلسة نقاش في باريس بأن يعمل أمثالنا على تطوير فكر إسلامي معتدل. قلت إني لست إسلاميا، ومن يفترض أن ينتج فكرا إسلاميا معتدلا هم الإسلاميون، أما نحن فنعمل على بناء قوى علمانية وازنة، وتلزم الإسلاميين بالاعتدال.
ولا يزال التصور المضمن في السؤال صحيحا في رأيي، لكن بشرط كسر ثنائية علماني إسلامي باتجاهات ثلاثة. أولا باتجاه رؤية تعدد العلمانية ذاتها، ووجود نسخ جهادية أو" داعشية" منها، مفتقرة إلى أي مضمون تحرري. ليس لدي أدنى احترام لهذه العلمانية التي وجدت نفسها دوما إلى جانب نظم الطغيان، وبلع أربابها ألسنتهم حيال فاشية النظام، في الماضي واليوم.
وثانيا: كسر الثنائية باتجاه رؤية تعدد الإسلاميين، إذ لا أرى صائبا إجمال الإسلاميين كلهم في خانة واحدة. هذا منطق حرب شاملة، وليس منطق معرفة صحيحة بواقع الحال، ولا منطق سياسة مثمرة. ليس بين كتل الإسلاميين من هم سند حتى النهاية لسياسة تحررية، لكن بعضهم شركاء محتملون على بعض جبهات الصراع، وبعضهم خصوم، وبعضهم أعداء دوما.
وثالثا: يجب كسر ثنائية إسلاميين علمانيين باتجاه رؤية أن لدينا عدوا يفوق في وحشيته أشد الإسلاميين وحشية، وهو النظام الأسدي. لا يجوز للعلمانية أن تكون ذريعة لاصطناع علاقة قربى بنظام قاتل، غذى التطرف في المجتمع، وسعّر الطائفية، وجلب محتلين أجانب للدفاع عن حكمه الوراثي غير الشرعي. في كل مكان من العالم يوصف من يفعل ذلك بأنه خائن للوطن. والنظام الأسدي خائن للوطن السوري.
أدافع من جهتي عن علمانية تحررية، تنخرط في الصراع من أجل التحرر السياسي والاجتماعي والفكري بين الناس، ولا تتعالى على الناس باسم قيم مجردة وخارجية عن كفاحهم.
ما هي رسالة الفيلم الرئيسية من وجهة نظرك؟
أفضل الاعتقاد أنه يتكلم على رحلتنا السورية، رحلة صراعنا المأساوي، لكن المستمر.
ما رأيك بعنوان الفيلم "بلدنا الرهيب"، هل فعلاً أصبح رهيباً؟
وماذا يمكن أن يكون رهيبا أكثر من حال بلدنا اليوم؟ ما الشيء الأكثر فظاعة من تدمير مجتمع لسحق ثورة شعبية؟ من بقاء سلالة قاتلة، سلمت البلد لأجانب ليحموا عرشها؟ من ظهور غول مثل داعش وشبيهات لها؟ والقائمة تطول.
العنوان مقتبس من عبارة وردت في ختام نص كتبته وقت غادرت البلد في أكتوبر 2013 : "وإن يكن أشبه بمسلخ اليوم، وطننا هذا ليس لنا غيره، وأعرف أنه ليس ثمة بلد أرأف بنا من هذا البلد الرهيب".