هل خسر العراق تعايش طوائفه بلا رجعة؟
١٩ أكتوبر ٢٠١٤بتكليف من المجلة الإخبارية الألمانية "دير شبيغل"، أقام الكاتب والصحافي نويد كرماني (نافيد كرماني) في العراق في منتصف شهر أيلول/ سبتمبر 2014 مدة أسبوع، وتنقل هناك بين مناطق مختلفة، فعاد بانطباع مفاده أن البلد خسِر خاصية تعدُّد الطوائف بلا رجعة. كيرستن كنيب أجرى الحوار التالي لموقع قنطرة مع نافيد كرماني:
السيد كرماني، مكثت في إطار رحلتك في العاصمة العراقية بغداد. ما هي الانطباعات التي خرجت بها من هناك؟
كرماني: بغداد مدينة في حالة طوارئ. هناك بعض الأحياء الثرية التي تسود فيها أحوال عادية إلى حدٍّ ما وهي محروسة بشكلٍ جيد. لكنَّ بقية المدينة متروكة وشأنها. وبالرغم من أنَّ عدد الهجمات بالسيارات المفخخة قد انخفض كثيرًا مقارنةً بالفترة السابقة، لكن الإجرام يسود اليوم بدلًا من ذلك. الدولة غائبة، وهذا يشجع الإجرام بطبيعة الحال.
ما هو الشعور الأساسي الذي رافقك خلال إقامتك في بغداد؟
لم أرَ أحدًا يضحك في فترة اليومين والنصف التي كنت فيها في بغداد. الناس متوترة للغاية، وتعاني من صدماتٍ مهيبة. وهذه الحالة لم تبدأ مؤخرًا، فالعنف يعود إلى فترة طويلة، حيث خلـَّفت حرب الثمانية أعوام مع إيران مليون قتيل، بعد ذلك جاءت حرب الخليج في أوائل التسعينيات، وتشير التقديرات إلى قتلِ عددٍ يتراوح بين المليونين والأربعة ملايين ونصف مليون شيعي في فترة حكم صدام حسين، ثم جاء الغزو في سنة 2003 وما تبعه من فوضى.
يضاف إلى ذلك على ما يبدو عواقب التدمير الثقافي.
نعم. كل شيء جرى تدميره وسرقته من المتاحف والقصور القديمة. ولنتذكر عملية "علي بابا" حين طلبَ الجنودُ الأمريكان من العراقيين نهب متاحفهم الخاصة. هذا يعني أنه لم يبقَ هناك شيء. إنَّ إنتاج مثل هذه الحالة من الفوضى وغياب القانون على مدى سنوات، يؤديان أيضًا إلى فساد أخلاقي، وهذا أمرٌ لا يحدث بين عشية وضحاها. لكن في وقتٍ ما، بعد سنواتٍ من الضربات المتكررة، يفضي هذا في نهاية المطاف أيضًا إلى فقدان كلِّ رادع، كما نرى حاليًا لدى بعض الأفراد في العراق.
ما الذي يستند إليه العراقيون إذًا في توجهاتهم؟ هل هناك أية معايير؟
كرماني: يشتد توجههم باطراد نحو طوائفهم الخاصة، وتتسم العلاقات بالعامل العرقي بشكل متزايد. بغداد القديمة كانت متعددة الثقافات، كان اليهود شكّلوا فيها أكبر مجموعة من السكان ذات أهمية ثقافية في المدينة حتى الأربعينيات. بغداد المتعددة الثقافات هذه لم يعُد لها وجود. اليوم تنكفئ الناس على طوائفها. يسود التضامن داخل المجموعة الدينية، ويساعد أفرادها بعضهم البعض، بينما تقل مساعدة أفراد من الطوائف الأخرى. لقد تضاءل الإحساس بالانتماء للمجتمع إلى حد كبير.
كيف ترى دور رئيس الوزراء نوري المالكي الذي استقال في شهر آب/أغسطس 2014؟ ألم تكـُن مهمته مصالحة الطوائف بعضها مع بعض؟
لقد فعل عكس ذلك تمامًا، وهذا مأخذ كل الذين حاورتُهم والتقيتُ بهم تقريبًا. كبار رجال الدين الشيعة، بمن فيهم آية الله السيستاني، بينوا لي أنَّ المالكي قد تسبَّب عن عمد بهذه الحالة. وتعمَّد بحسب رؤيتهم الإيقاع بين الطوائف، بغية بث الفوضى، وليصبح بالتالي صدَّامًا جديدًا وليقدم نفسه باعتباره الرجل القوي الجديد. إلا أنَّ هذه الحسابات فشلت بشكلٍ كارثي.
وهذا ما استغلته المنظمة الإرهابية "الدولة الإسلامية" (داعش).
نعم. نخبة صدام حسين القديمة ناشطة جدًا في هذه المنظمة. ينسحب هذا بشكلٍ عامٍ على التعصب الديني: الكثير من قادة التيار المتعصب أتوا وما زالوا يأتون من أوساطٍ علمانية، ومنهم على سبيل المثال أطباء ومهندسين. وإذا نظرنا اليوم إلى السِيَر الذاتية لقادة داعش فسوف نرى أنهم ليسوا علماء دين متخرجين من المدارس الفقهية، بل أناسًا لديهم توجهات علمانية. إلا أنهم انقلبوا على التقاليد ويريدون الآن العودة إلى بدايةٍ وهميةٍ أولى.
ما طبيعة علاقة هؤلاء بالدين؟
ينبغي أخذ الواجهة الدينية على محمل الجد. الكثير من الجهاديين الأوروبيين، والكثير من الجهاديين المحليين، بالإضافة إلى الوهابية التي ساهمت في تمكين هذا الفكر من الانتشار، كل هذا ديني، ولا بدَّ من أخذه على محمل الجد. البنية الفكرية هنا دينية، لكنَّها بنية منقلبة ضد تقاليدها، وتسعى إلى إزالة التقاليد، وهذا عنصر بروتستانتي فيها، كما تسعى للعودة إلى النص الخالص. إذًا فهي حركةٌ مناهضةٌ للتقاليد.
كيف يؤثر إرهاب داعش على النسيج العِرقي-الديني في العراق؟
من الواضح أنَّ سلوك السكان العرب السُّنة لم يكـُن متضامنًا مع الشيعة والمسيحيين واليزيديين. الثقة معدومة تمامًا. الناس خائفة من العودة إلى مناطقها، وتقول إننا عشنا بجوار هؤلاء الناس على مدى قرون، لكنْ عندما اضطررنا للفرار نهبوا بيوتنا. لا أعلم عدد الذين ينطبق عليهم هذا. لكنْ المعروف أنَّ تنظيم داعش يحارب الجميع وحتى السنّة الذين يرفضون حكمه، حيث يقوم بقتلهم على الفور. لا أستطيع التأكيد على صحة كل الأحداث التي رُويت لي. لكنَّ المؤكد أنَّ الناس خائفةٌ من العودة. وهنا بالضبط تكمن بذرة الإرهاب. ستختفي ميليشيات داعش ذات يوم، بيد أنَّ عدم الثقة سيظل قائمًا، وأخشى أنْ يؤدي هذا إلى فقدان العراق المتعدد الطوائف بلا رجعة، في وسط البلاد على الأقل.
كيف يحدث هذا بالضبط؟ ما هي استراتيجيات داعش؟
أعتقد أنَّ هناك فرقًا بين جيل الجهاديين الحالي وإرهابيي الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. كان الأمر يتعلق في ذلك الوقت بأناسٍ حصلوا على تعليمٍ عالٍ ممن لديهم سِيَر ذاتية علمانية ناجحة، حيث كانوا من النخبة. أما القادمون من الغرب الذين ينخرطون اليوم في الجهاد فمعظمهم من الفاشلين بحسب ما هو معروف عن سِيَرهم الذاتية. يحصل هؤلاء على سلطة لا تصدَّق: يحصلون على مدفع رشاش، ويصبحون فجأة متنفذين ويمكنهم أخذ النساء. جزءٌ كبيرٌ من سِيَرهم الذاتية هي سِيَر إجرامية تحوَّلت لتصبح إسلامية عبر صحوة. ويمكن لهؤلاء أن يمارسوا العنف ذاته كما كانوا يفعلون من قبل. ويُسمح لهم أنْ يأخذوا كل شيء، وهُم يجدون أنفسهم فجأة على الجانب "المُشرِّع". وهذ يبهرهم بشكلٍ كبير.
أي أنَّ كلَّ ما كانوا يفعلونه في السابق، وما زالوا يفعلونه، يُضفَى عليه الآن شرعية دينية. كما تلعب الإثارة دورًا. وأعتقد علاوة على ذلك، أنَّ جماعة داعش تـُرهِب أفراد ميليشياتها أيضًا، وتدفعهم لممارسة الإرهاب إلى الحدِّ الذي لا يستطيعون معه العودة إلى الحياة العادية. بهذا يتم تدمير العيش المشترك على مدى عقود. إنها آليات فقدان الرادع بالكامل. يمكن ملاحظة ما يشبه هذه الآليات في حروبٍ أهليةٍ أخرى. ومن يفقدَ الرادعَ إلى هذا الحد، ومن يسمح لنفسه بفعل كلِّ شيءٍ –لا يريد أحدٌ أنْ يعيش معه. وبهذا النهج يمكن إنتاج نقطة تحول تاريخية، بعدد قليل من الأشخاص نسبيًا، كما هي الحال في العراق.
كيرستن كنيب
ترجمة: يوسف حجازي
حقوق النشر: قنطرة 2014