هل تستطيع حكومة شولتس تبديد مخاوف الألمان من تراجع الاقتصاد؟
٧ فبراير ٢٠٢٣رغم أن أزمة الطاقة التي اندلعت بعد بدء الحرب في أوكرانيا لم تكن قاسية على ألمانيا بالشكل الذي توقعه الخبراء صيف العام الماضي 2022، فإن الأضرار التي لحقت بمئات الشركات في العديد من قطاعات الاقتصاد الألماني لم تكن قاسية وحسب، بل وفادحة أيضا بسبب إفلاس العشرات منها. وإذا كانت الدولة خصصت حزم إنقاذ بقيمة تصل إلى 200 مليار يورو لمواجهة أزمة الطاقة، فيمكن لنا تقدير الخسائر الفعلية بأكثر من هذا المبلغ. وقد ترافقت الأضرار مع ارتفاع الأسعار وانقطاع سلاسل التوريد وعرقلة الإنتاج أو توقفه في مئات الشركات.
ومن تبعات ذلك ركود الاقتصاد وفقدان سلع كثيرة من السوق. وعلى سبيل المثال تفيد المعطيات المتوفرة بأن هناك 300 نوع من الأدوية غير متوفرة حاليا في السوق الألمانية. ومع دخول الحرب في أوكرانيا مرحلة تصعيد جديدة تزداد الخشية من تبعات اقتصادية أكثر قسوة، لاسيما في القطاعات التي تعتمد بشكل مكثف على الغاز والنفط والمواد الأولية الأخرى التي كان يتم استيرادها من روسيا وأوكرانيا.
الخشية على مستقبل البلاد أضحى مشكلة للغالبية
في الصيف والخريف الماضيين حذر خبراء كثر ومؤسسات عديدة على رأسها أتحاد غرف التجارة والصناعة الألمانية من تراجع الصناعة الألمانية وفقدان ألمانيا لمكانتها العالمية في هذا المجال على ضوء تبعات الحرب في أوكرانيا. وقبل أيام أفادت توقعات خبراء معاهد الاقتصاد الألماني وعلى رأسها المعهد الألماني لأبحاث الاقتصاد في برلين، ومعهد الاقتصاد العالمي في مدينة كيل ومعهد "إيفو" في مدينة ميونيخ أن نمو الاقتصاد الألماني سيبقى دون 1 بالمائة خلال سنوات العقد الجاري.
وتتوافق هذه التوقعات مع نتائج استقصاء "معهد النسباخ للديمغرافيا" الذي نشرته جريدة "فرانكفورتر الغيماينه تسايتونغ" في 26 الشهر الماضي يناير/ كانون الثاني 2023، والذي أفاد بأن أكثر من ثلثي الألمان لا يعتقدون أن بلادهم ستتطور بشكل إيجابي خلال السنوات العشر القادمة. وفي الوقت الذي كان فيه نحو 60 بالمائة يعتقدون أن ألمانيا ستبقى أحد أهم عشر اقتصاديات في العالم مع حلول أواسط العقد القادم، فإن هذه النسبة تراجعت حاليا إلى أقل من 40 بالمائة. وترى أعدادا متزايدة من الألمان أيضا أن أداء الكثير من الأعمال والخدمات الأساسية يتراجع، وأن الكثير من الخدمات لم تعد تُقدم بشكل مقبول بالنسبة للمستهلكين. كما يرى هؤلاء أن بلادهم فقدت وتفقد الريادة في مجالات قطاعات المستقبل كأجهزة الاتصال والذكاء الاصطناعي والرقمنة والطاقات المتجددة وصناعة الحواسيب.
من المسؤول عن الفشل في تحديث الاقتصاد؟
تحمّل غالبية الألمان الدولة مسؤولية الوضع الذي وصلت إليه البلاد، إذ يرى نحو 80 بالمائة منهم أنها فشلت في تحقيق الكثير من الأهداف الطموحة خلال السنوات الماضية، ومن بينها الحد من البيروقراطية كمطلب ينادي به رجال الأعمال منذ عقود. ويرى 68 بالمائة أنها لم تفلح أيضا في تحديث قطاعات الاقتصاد المستقبلية وتعزيز قدرة الشركات الألمانية على المنافسة العالمية. كما أن أعدادا متزايدة من الألمان لا تنظر بعين الرضى إلى سياسة حكومة المستشار أولاف شولتس الرامية إلى استيراد مزيد من الغاز المسال ومصادر الطاقة الأحفورية الأخرى بأسعار عالية لحل أزمة الطاقة، متسائلين عما تبقى من أهداف مواجهة التغيرات المناخية.
وقد تضاعفت نسبة الألمان الذين يشتكون من تراجع مستوى الخدمات العامة كالخدمات الصحية والتعليمية لتصل إلى نحو 40 بالمائة. وليس النقص في الكوادر التعليمية للمدارس والمعاهد المهنية وضعف تجهيزها سوى دليل على ذلك. وتشتكي جميع قطاعات الاقتصاد تقريبا من عدم توفر الأيدي العاملة اللازمة لشغل الوظائف الشاغرة في الخدمات الصحية وتقنية المعلومات وغيرها من القطاعات الأساسية. وتقدر حاجة ألمانيا حاليا بنحو مليوني عامل وحرفي وموظف يتم البحث عنهم في داخل ألمانيا وخارجها. ويأتي هذا في الوقت الذي يتراجع ويتدهور فيه المستوى المعيشي لأعداد متزايدة من الطبقة الوسطى التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد والمجتمع.
الإصلاح الاقتصادي ومكانته في سلم الأولويات
عندما تولت الحكومة الألمانية الحالية برئاسة أولاف شولتس مهامها في يناير/ كانون الثاني 2022 وضعت نصب أعينها تحديث قطاعات الاقتصاد وتحسين مستوى الخدمات من خلال برامج استثمار تصل قيمتها إلى أكثر من 65 مليار يورو. غير أن اندلاع الحرب في أوكرانيا بعد توليها السلطة ببضعة أشهر وتبعاتها المتوالية، وضع لحكومة في موقع صعب للغاية وجعلها تركز على قضايا مستجدة أبرزها مواجهة أزمة نقص مصادر الطاقة وتخصيص 100 مليار يورو لتسليح الجيش الألماني وتحديثه. ورغم النجاحات التي حققتها على صعيد مواجهة الأزمة وتبعات الحرب فإن استمرارها بأسلحة أكثر فتكا مؤخرا قد يجبر هذه الحكومة للبقاء في حالة تأهب لمواجهة مستجدات الحرب الأمنية والعسكرية والسياسية، أكثر من مواجهة التبعات الاقتصادية في الوقت الحاضر. ومن هنا يبدو من الصعب جدا على حكومة المستشار شولتس دفع عملية تحديث الاقتصاد والوفاء بما وعدت به في المدى المنظور، بسبب اختلاف الأولويات من جهة واختلاف وجهات نظر أحزاب التحالف الحاكم من جهة أخرى. ويضم هذا التحالف إلى جانب الحزب الاشتراكي الديمقراطي وهو حزب المستشار شولتس، حزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر. ومن المعروف أن لكل من هذه الأحزاب وجهات نظر مختلفة ومتضاربة أحيانا حول أسئلة جوهرية مثل: إلى أي مدى ينبغي دعم أوكرانيا بالسلاح؟ وهل ينبغي التمسك بأهداف مواجهة التغيرات المناخية؟ وهل البحث عن مصادر بديلة لنقص مصادر الطاقة في الخارج بالشكل الذي يتم حاليا هو السبيل الأسلم؟
هل يفي المستشار شولتس بوعوده الجديدة؟
أقرّ المستشار الألماني شولتس مؤخرا ولو يشكل غير مباشر بصعوبة هذه المرحلة والبطء في تنفيذ ما وعدت به حكومته. وعلى ضوء ذلك قال في مقابلة مع صحيفة "تاغس شبيغل" في 29 الشهر الماضي يناير/ كانون الثاني 2023 أن حكومته تعتزم "تسريع عملية الإصلاح الاقتصادي" التي تأخرت أكثر من مرة خلال السنوات الماضية. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، كيف للمستشار القيام بذلك في الوقت الذي تزداد فيه الخلافات مع شريكيه في التحالف الحكومي، لاسيما مع حزب الخضر حول كيفية بناء الطرق ومصادر الطاقات المتجددة وتسليح الجيش وقضايا أخرى عديدة؟ وعلى ضوء الأصوات المتعالية في صفوف حزبي الخضر والأحرار لإعادة هيكلة الصناعة من أجل تعزيز دور الصناعات العسكرية، فإنه قد يكون على بقية الصناعات المدنية والخدمات الأساسية الانتظار فترة أطول قبل أن تركز الحكومة على عملية الإصلاح فيها. وفي هذا السياق يخشى كثيرون من أن يكون الوقت قد تأخر لعملية الإصلاح هذه.
إبراهيم محمد