"لا للعنف! نحن الشعب!“
٢٨ يناير ٢٠٠٩دويتشه فيله: قبل شهر واحد من سقوط الجدار في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 1989 انطلقت في مدينة لايبزج أكبر المظاهرات في جمهورية ألمانيا الديمقراطية في ذلك الوقت بمشاركة 70 ألف متظاهر. ولم يستطع حزب الوحدة الاشتراكي الألماني الحاكم أن يقوم بشيء تجاهها. كيف كان من الممكن تعبئة كل هذا العدد من الأشخاص؟
كريستيان فوهرر: لطالما طرح هذا السؤال نفسه. من خلال الصلوات السلمية المستمرة في كنيسة القديس نيقولاي في لايبزج كل يوم أحد ابتداءً من عام 1982، كنا على الدوام مكاناً لتجمع المنتقدين، الذين لم يُسمح لهم بالكلام في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، كما كان معروفاً. وقد ازدادت أعداد المشاركين في الصلوات بعد أن قامت السلطات بغلق الطرق المؤدية إلى الكنيسة في 8 أيار/ مايو 1989. وكانت هذه السلطات تعتقد أن هذا الإجراء سيقلل من عدد الأشخاص، الذين يقصدون الكنيسة. لكن ما حدث كان عكس ذلك تماماً. في القداس الخريفي في 4 أيلول/ سبتمبر حصل مراسلو بعض شبكات التلفزة الغربية على موافقة لتصوير كامل المدينة. وحين خرجنا رأينا أنهم وقفوا جميعاً أمام الكنيسة. فرفع المشتركين في القداس لافتة، كُتب عليها: "من أجل بلد حر ومواطنين أحرار". بقيت اللافتة مرفوعة قرابة 15 ثانية، قبل أن تتدخل عناصر الشرطة السرية شتازي وتنزلها. لكن كل ذلك حدث أمام الكاميرات الغربية. وتم عرض هذا في نشرات أخبار مساء ذلك اليوم. ولم يعلم مواطني الولايات الواقعة في الشطر الغربي في ألمانيا بالأحداث المثيرة في مدينة لايبزج فحسب، بل وكذلك جميع مواطني جمهورية ألمانيا الديمقراطية، الذين كانوا يتابعون قنوات التلفزة الغربية.
ثم حلت الذكرى الأربعين لقيام جمهورية ألمانيا الديمقراطية في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 1989؟
في هذا الوقت أُعتقل المئات أمام كنيسة القديس نيقولاي في لايبزج. رئيس الدولة إيرش هونيكر قال بالحرف الواحد: "يجب إيقاف أفعال كنيسة القديس نيقولاي". كان رجال الشرطة مجهزين للمرة الأولى بالهراوات والكلاب البوليسية والدروع وانهالوا بالضرب على الناس طوال اليوم من الظهيرة حتى المساء. وكُتب بالصحف الرسمية: "سيتم في يوم الاثنين (9 تشرين الأول/ أكتوبر) إنهاء الثورة المضادة، باستخدام السلاح إن لزم الأمر". وفي يوم 8 تشرين الأول/ أكتوبر جاءنا بعض الأطباء واخبرونا أنه تم إخلاء بعض الأقسام في المستشفيات للمجروحين بإطلاق الرصاص. لذلك حل يوم التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر حاملاً بين طياته مخاوف كبيرة.
وكيف سارت المظاهرة الحاشدة في 9 تشرين الأول/ أكتوبر؟
قصد إلى الكنيسة في مركز المدينة قرابة 6 أو 8 الآلاف شخص، ولم تكن الكنيسة تستوعب أكثر من ذلك العدد. لكن العدد وصل إلى 70 ألف متظاهر. ولم نستطع الخروج من الكنيسة فقد كان الفناء يغص بالناس. كانوا جميعاً يحملون الشموع، التي ترمز إلى عدم استخدام العنف. فمن يحمل الشمعة يحتاج إلى كلتا يديه من أجل إبقائها مشتعلة، وبالتالي لا يمكنه حمل حجر أو هراوة. عن هذا قال احد أعضاء اللجنة المركزية لحزب الوحدة الاشتراكي الألماني فيما بعد: "خططنا من أجل أن نكون مستعدين لكل شيء، لكن لم نخطط لمواجهة الشموع والصلوات". فلم يكن لدى رجال الشرطة أوامر لمواجهة ذلك. فقد كانت لديهم أوامر باتخاذ الإجراءات المعتادة في حالة رميهم بالحجارة أو مواجهتهم. لذلك انسحب رجال الشرطة. وحين عادوا من جديد من دون إطلاق الرصاص، عرفنا أن جمهورية ألمانيا الديمقراطية لم تعد عما كانت عليه في تلك الصبيحة. وشعرنا كيف بدأ يدب تغيير كبير. لكننا لم نفهم ذلك إلا فيما بعد.
كنت تدعو دائماً إلى عدم استخدام العنف وتشجيع المتظاهرين على عدم الخشية من ممارسات الجيش التخويفية حتى بعد أن قام بتسيير الدبابات. ما الذي دعاك أن تكون متأكداً من كل شيء سيسير سلمياً؟
لم نكن متأكدين من ذلك مطلقاً. كنا نشعر بالخوف على الدوام، لكن الإيمان كان أكبر من الخوف دائماً. كنا نعرف منذ زمن السيد المسيح قوة عدم استخدام العنف. وكان هذا الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامنا. فأن لجأنا إلى العنف سنكون كالجانب المقابل ونخرج عن بركات الرب. وتمكنت من أن أوصل ذلك إلى الشباب خلال الصلوات السلمية. ومن المدهش أنهم قاموا بتنفيذ كل ذلك ونبذوا العنف. ومن ثم شاهدنا أن الجماهير في ذلك البلد الخارج عن تعاليم المسيح استوعبت تبجيلات المسيح بكلمتين، الأمر الذي ما زال مؤثراً في بشكل كبير حتى اليوم، كانت تلك الكلمتين: "لا للعنف!". ولم تناد الجماهير بهاتين الكلمتين فقط، بل تصرفوا كذلك بسلمية تامة. وأرى في هذا الأمر معجزة حقيقية. وكانت هذه هي الثورة الأولى، التي تنجح من دون إراقة الدماء. وكان هذا باعثاً حقيقياً.
هل يعني هذا أنه ما كانت لتقوم ثورة سلمية من دون مواطني لايبزج؟
لقد كانت لدينا أشياء لم تكن موجودة في أي مكان آخر، مثل الصلوات السلمية المنتظمة في كل أسبوع طوال تلك الفترة، وكذلك مجموعة قوية من المتطوعين للخروج من ألمانيا الديمقراطية. إن هذه الوحدة الكامنة في داخلنا والتي بقيت متماسكة في كنيستنا، تعد من المزايا، التي لا يمكن أن يجدها المرء في أي مكان آخر. وقد جذبت هذه الأشياء الجماهير الغفيرة إليها فيما بعد. فقد أتى الكثير من الأشخاص من كافة أنحاء جمهورية ألمانيا الديمقراطية. ففي 9 تشرين الأول/ أكتوبر 1989 لم يأت 70 ألف شخص من لايبزج وسكسونيا فقط، بل من مختلف أنحاء الجمهورية. وجلس في كنيسة القديس نيقولاي أشخاص يمثلون جميع مناطق جمهورية ألمانيا الديمقراطية. ولولا لايبزج لما وجد التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1989 ولا 3 تشرين الأول/ أكتوبر 1990.
ماذا تبقى اليوم من الثورة السلمية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية؟
أعتقد أننا بحاجة اليوم أيضاً إلى الجرأة والشجاعة الأخلاقية من أجل المبادرة وعدم الاكتفاء بالقول: سيقومون بهذا وستتحسن الأمور بشكل من الأشكال. بل تحمل المسؤولية تجاه البلد. فنحن الألمان قدمنا الكثير من التضحيات في المكان الخاطئ. أما الآن فمن المناسب أن نقدم التضحيات في المكان الصحيح، وأن نعمل على تحمل الصعاب من أجل ألمانيا الموحدة، هذا البلد الرائع ومن أجل هذه الديمقراطية. وأعتقد هنا أن علينا أن لا نبدي تلك الحساسية الألمانية القديمة تجاه كل شيء وأن لا نبحث عن العيوب في كل مكان. بل يجب علينا أن نقول: هذا بلدنا، ونريد تجسيد هذه الديمقراطية، التي حصلنا عليها بصعوبة من خلال الجرأة والمخاطرة بالحياة. ويمكننا أن نصل إلى هذا الهدف ببساطة من خلال المشاركة الكبيرة في الانتخابات، فقد كان هذا الأمر على سبيل المثال من المطالب في خريف 1989: انتخابات حرة. وقد نلنا كل هذا الآن.
تقول إن "ألمانيا بلد رائع وديمقراطية رائعة"، ولكن على الرغم من ذلك فقد وجهتم نقداً لاذعاً إلى سير عملية الوحدة. ما هي الأخطاء التي حصلت في نظركم؟
كان يجب استغلال كل فرصة متاحة من أجل تحقيق الوحدة الألمانية، لذلك أرى أنه كان من الضروري استغلال عرض الرئيس السوفيتي السابق غورباتشوف في القوقاز في تموز/ يوليو 1990 في القوقاز فوراً. لكننا احتجنا مزيداً من الوقت من أجل صياغة الوحدة بمسؤولية. اعتقد أن التاسع وليس الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر هو التاريخ الأصح لليوم الوطني. فقد أعطى هذا الأمر وعي الناس في جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة مكانة متميزة، فقد تم خلق متطلبات الوحدة هنا في الشرق من دون أي مساعدة خارجية. أما الأمر الثاني فيتعلق بالاسم، الذي لا يمكن أن يبقى على حاله "جمهورية ألمانيا الاتحادية"، فهو متعلق بجزء من ألمانيا للفترة من 1949 وحتى 1989. تصور أننا أردنا أن يدعى البلد الموحد الجديد جمهورية ألمانيا الديمقراطية! لكانوا قالوا إننا مرضى نفسيين. وبسبب ذلك تولد لدى الألمان الغربيين انطباع: نسمى هكذا، ونبقى هكذا، نضم إلينا هؤلاء الشرقيين، ونعيد اعمار جمهورية ألمانيا الديمقراطية في وقت قصير وانتهى الأمر. لكن العملية لم تكن كذلك. وفي النهاية النشيد الوطني، الذي لوثه النازيون إلى الأبد. فما الجديد الذي حصل عليه الشطر الغربي من ألمانيا بعد الوحدة؟ أرقام مناطق البريد الجديدة أم لوحات أرقام السيارات؟ لكن الحال هنا في الشطر الشرقي تغير تماماً. وهذه بعض الجوانب الصعبة من سير عملية الوحدة.
ما تزال تقام الصلوات السلمية في كنيسة القديس نيقولاي. فالناس يصلون من أجل أفريقيا ومن أجل زراعة خالية غير معدلة جينياً ومن أجل مبادرة "علامات التكفير عن الذنوب". أليس من الأفضل التعبئة ضد الأوضاع المتردية بدلاً عن الصلاة كل أسبوع من أجل شيء آخر؟
في كل عام نقيم ثلاث صلوات سلمية لموضوع البطالة، وفي عام 1992 أنشانا حلقة حوار بعنوان "أمل للعاطلين عن العمل" في كنيسة القديس نيقولاي. وحينها انطلقت الكثير من المظاهرات واستمرت لأسابيع. ولقيت استحسان المواطنين بشكل كبير. وكذلك هناك الكثير من الفعاليات ضد الفاشية الجديدة. فقد كان لدينا احد النازيين الجدد من هامبورغ، والذي تقدم بطلب لإجراء مسيرات للنازيين الجدد في 1 أيار/ مايو و7 تشرين الأول/ أكتوبر من كل عام حتى 2014 في مدينة لايبزج. وأجريت هذه المسيرات فعلا من عام 2001 حتى 2007. لكننا تحركنا من الكنيسة كعهدنا دائما ضد النازيين الجدد ومن دون عنف. وفي الحقيقة نجحنا في جعل ذلك النازي الجديد يتخلى عن مطلبه في عام 2007. كما أننا نتحرك ضدهم في مدن أخرى. فمدينة كوليدتس الصغير الواقعة في ولاية سكسونيا على سبيل المثال، كانت دائماً مقصداً للنازيين الجدد وكانت تقبع في ظل الخوف. حينها أعلنا عن نيتنا في استلهام الشجاعة من الكنيسة مجدداً. ونظمنا فعالية كبيرة وأقمنا صلاة سلمية في المدنية تحت عنوان "مدينة تنهض من جديد"، بمشاركة الكنائس الأخرى وبعض الاتحادات. ونجحنا في بث إشارة واضحة على رفض النازيين الجدد.
وهل تتوقع أن لا يظهر اليمينيون المتشددون من مدينة كوليدتس من جديد؟
بل سيظهرون مجدداً، لكن حين لا يدع المواطنون هناك فرصة لتخويفهم من قبل الآخرين، سنكون قد حققنا خطوة كبيرة إلى الأمام. فمن المهم دائماً أن لا يتخوف المواطنون من مجموعة قليلة تقوم بالكثير من الشغب وتعطي انطباعاً بأنها قوية، بينما هي لا تعيش سوى على مخاوف الجانب الآخر. وحتى موضوع البطالة يضع الكثير من المصاعب أمام الناس. لكن الصلوات السلمية ما زالت تتيح إمكانية كبيرة إزاء ذلك.
كريستيان فوهرر: عمل قساً في كنيسة القديس نيقولاي الإنجيلية في مدينة لايبزج للفترة من 1980 حتى 2008، وتقاعد عن العمل في آذار/ مارس 2008.
أجرت المقابلة: يوليا اليفيرس-غيوت
ترجمها إلى العربية: عماد م. غانم