قرار جديد للمحكمة الجنائية الدولية: ضغط على البشير أم تدخل في الانتخابات؟
٧ فبراير ٢٠١٠بينما كانت الأنظار متجهة إلى قطر، حيث ترعى الدوحة، مفاوضات السلام بين حركات التمرد الدارفورية المسلحة والحكومة السودانية، عادت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي والمدعي العام لديها، الأرجنتيني لويس مورينو أوكامبو، ليحتلا العناوين الرئيسية لوسائل الإعلام العالمية. فقد أبطل قضاة دائرة الاستئناف في المحكمة، وبطلب من أوكامبو، قرارا سابقا كانت الدائرة التمهيدية في المحكمة نفسها قد اتخذته وأسقطت بموجبه تهمة الإبادة الجماعية عن الرئيس السوداني عمر حسن البشير، مكتفية بتوجيه سبع تهم إليه أبرزها تهمتا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وقد برر قضاة الدائرة التمهيدية قرارهم، يومها، بأن المدعي العام "لم يقدم أدلة كافية" فيما يتعلق بتهمة الإبادة الجماعية. وبالرغم من أن التهم السابقة كانت كافية لإصدار مذكرة توقيف بحق البشير، فإن أوكامبو "لم يستسلم" لقرار الدائرة التمهيدية، بل توجه إلى دائرة الاستئناف مع "أدلته الجديدة" ليحصل منها على هذا القرار الجديد.
توقيت القرار وتسييس "العدالة"
صدور القرار في هذا الوقت بالذات، أي قبل شهرين من موعد الانتخابات السودانية، طرح علامات استفهام كبيرة. إلا أن الكاتب والحقوقي السوداني كمال الجزولي استغرب "ركون البعض إلى نظريات المؤامرة في مثل هذه القضايا الحساسة". وأضاف الأمين العام السابق لاتحاد الكتاب السودانيين في حوار مع دويتشه فيله أنّ "توقيت إصدار قرار المحكمة وطريقة عملها غير مرتبطين بأي حال من الأحوال بالظروف السياسية في السودان". وشدد المحامي المعروف، وصاحب عدة مؤلفات عن المحكمة الجنائية الدولية، على أن هذه المؤسسة القضائية "لا تعمل وفق أجندة السياسة في السودان، أي انتخابات وما شابه ذلك".
لكن هذا الرأي لم يرق للحكومة السودانية، التي تواصل "حملتها" على المحكمة الجنائية الدولية والمدعي العام أوكامبو متهمة إياهما بشتى التهم، لعل أبسطها تنفيذ "أجندة ضد السودان"، حسب كلام ربيع عبد العاطي، القيادي البارز في حزب المؤتمر الوطني الحاكم. وأضاف عبد العاطي، مستشار وزير الإعلام والاتصالات السوداني، في حوار مع دويتشه فيله بأنه يختلف تماما مع وجهة نظر كمال الجزولي وأن هناك "علاقة وثيقة جدا بين التطورات السياسية في السودان: الانتخابات، مفاوضات الدوحة، إلخ ... وبين تحركات المحكمة والمدعي العام أوكامبو".
وجدد عبد العاطي رفض الحكومة السودانية الاعتراف بهذه المحكمة ورأى بأن الخرطوم تتصرف وكأنها "غير موجودة لأنها تستغل كآلية لتنفيذ أجندات سياسية خاصة بالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا". ولم يكتف عبد العاطي بهذه التهم، بل رأى أن قرار المحكمة الأخير يهدف إلى "وقف جهود الحكومة السودانية لإجراء الانتخابات والتداول السلمي للسلطة". فالرئيس البشير يحظى، برأي عبد العاطي، بتأييد كبير وأنّ فوزه "الساحق" في الانتخابات "سيبطل كل مفاعيل المحكمة الجنائية الدولية".
الضغط على البشير أم إعادة الاعتبار للمحكمة؟
وإذا كان الأكاديمي المصري الألماني فؤاد إبراهيم قد اتفق مع كمال الجزولي بأن قرار المحكمة "غير سياسي ولا يستهدف إضعاف الرئيس البشير في الانتخابات المقبلة"، إلا أنه رأى فيه "خدمة للرئيس السوداني". وأضاف الأستاذ السابق في جامعة بايروت بجنوب ألمانيا، المتخصص بالملف السوداني، في حوار مع دويتشه فيله بأن "ملاحقة المحكمة للبشير، وبتهم جديدة، لن تضره، بل على العكس تماما، سترفع من شعبيته ومن أسهمه في الانتخابات المقبلة".
كما رفض إبراهيم "المقاربات والتفسيرات" السياسية لقرارات المحكمة وما ذهب إليه البعض بأن دائرة الاستئناف أرادت، من خلال قرارها، أن "تعيد الروح إلى المحكمة وأن تضغط على البشير كي يقدم تنازلات في ملف دارفور". فالمحكمة، حسب إبراهيم، تقوم بعملها الذي كلفه بها مجلس الأمن الدولي، وهو "حماية سكان دارفور ومحاسبة المسؤولين عن مقتل ثلاثمائة ألف شخص وتشريد نحو ثلاثة ملايين معظمهم من النساء والأطفال".
وإذا كان الرئيس البشير متأكدا من براءته فما عليه إلا "بتسليم نفسه للمحكمة وإثبات هذه البراءة أمام العالم أجمع"، كأفضل خيار لـ"إنصاف الضحايا وإحلال السلام في دارفور". إلا أن رأي الأكاديمي الألماني من أصل مصري لم يعد يحظى بالتأييد الواسع، فحتى إدارة الرئيس باراك أوباما، وبرأي معظم المراقبين "فقدت حماستها لخيار المحكمة الجنائية". كما يبحث الاتحاد الإفريقي، منذ إصدار مذكرة التوقيف بحق البشير، عن "بدائل أخرى للمحكمة دون المجاهرة بذلك".
العدالة الانتقالية كأفضل حل لأزمات السودان
وقد وجه الاتحاد انتقادات إلى قرار المحكمة الجديد وأضاف في بيان له بأن "إعادة النظر في تهمة الإبادة الجماعية ضار بعملية السلام في السودان". وبالرغم من تشديد البيان على "تمسك الاتحاد بالعدالة ورفضه التام الإفلات من العقاب"، فإنه رأى أن القرار الأخير "يتعارض مع عملية السلام". وكان الاتحاد قد طالب مجلس الأمن في العام الماضي بتجميد إجراءات المحكمة بحق البشير لمدة اثني عشر شهرا. ولم يكتف بذلك بل "شكل "لجنة حكماء" لمعالجة الملف الدارفوري برئاسة الرئيس السابق لجنوب إفريقيا ثابو مبيكي.
وبالفعل أنجزت اللجنة عملها وقدمت توصيات عدة، أهمها تبني مقترح زعيم حزب الأمة السوداني المعارض والمرشح للرئاسة الصادق المهدي والقاضي بـ"تشكيل محكمة مختلطة"، إلا أن الحقوقي السوداني كمال الجزولي رأى، في حواره مع دويتشه فيله، بأن "هناك صعوبات عملية تحول دون نجاح فكرة المحكمة المختلطة"، مفضلا تبني توصية أخرى للجنة، وهي "المتعلقة بالعدالة الانتقالية". فبالرغم من تأييد الجزولي "الثابت والمبدئي" لعمل المحكمة الجنائية الدولية، إلا أنه دعا إلى التعامل مع هذا الملف "بشكل عملي"؛ أي عبر تبني مفهوم العدالة الانتقالية، أسوة باحدى وأربعين دولة في العالم تبنته كأفضل حل لمواجهة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، منها جنوب إفريقيا والمغرب.
الكاتب: أحمد حسو
مراجعة: هشام العدم