في ظل غياب فضاءات الاستجمام .. نواكشوط مدينة لا تتنفس
٢ نوفمبر ٢٠١٣لم يعرف الموريتانيون حتى وقت قريب ثقافة شرب القهوة، إلى أن قرر شاب تونسي افتتاح أول مقهى وسط العاصمة نواكشوط، ليصبح وجهة مفضلة لمعظم المثقفين من خريجي الجامعات العربية والأوروبية، بل وحتى لبعض المواطنين العاديين.
وفي أقل من سنتين تحول ما بات يعرف بـ"مقهى تونس أو قهوة تونس" إلى المكان المفضل لنقاش القضايا الكبرى التي تهم النخبة الموريتانية، فمنه تبلورت الأفكار الثورية لحراك 25 فبراير الذي كان يسعى للإطاحة بنظام العسكر سنة 2011، كما عرف ميلاد العديد من المنتديات الثقافية التي يعتبر ملتقى 21 أغسطس الثقافي من أبرزها، بالإضافة الى كونه الوجهة المفضلة للباحثين عن مكان معاصر للاستجمام والراحة، بعيدا عن جو الصالون الموريتاني وفضائه الاجتماعي.
القهوة تنافس الشاي الأخضر
أحمد ولد محمدو – كاتب صحفي ويشغل مركز المدير المساعد في إدارة الصحافة الإلكترونية بوزارة الاتصال الموريتانية – يعتبر من بين الرواد الدائمين لمقهى تونس وسط نواكشوط، إذ يرى فيه أفضل مكان يسمح له بالاستمتاع بوقته ويمنحه جوا للراحة.
و يقول في حديثه لـDWعربية: "لاشك أن غياب فضاءات الاستجمام العصري في نواكشوط من الأسباب التي جعلتني أقبل مع آخرين كثر على مقهى تونس، ربما لأن ثقافة الاستجمام لم تكن معروفة أصلا لدى الموريتانيين ولهذا وجدوا ضالتهم في هذا الفضاء الذي يكاد يكون الوحيد من نوعه لحد الآن".
وأصبح المقهى ملتقى لخريجي الجامعات الأجنبية أو لمن عاشوا في الخارج وجلبوا معهم ثقافة شرب القهوة بدل الشاي الأخضر الموريتاني، "كما أن مالك المقهى يتفاعل مع زبائنه بشكل إيجابي من خلال تقديمه للخدمات بأسعار تناسب الوضعية الاقتصادية لمرتاديه"، كما يشير ولد محمدو.
في حين يرى علي ولد إبراهيم – وهو طالب جامعي – أن إدمانه على ارتياد القهوة التونسية سببه الرئيسي هو "توفير إمكانية الخلوة بالنفس، على عكس المنزل الذي لم يكن يوما ملائما لذلك، نظرا لطبيعة المجتمع الموريتاني المفتوح أو التكافلي بشكل أو بآخر".
فالمنزل الموريتاني هو المكان المعتاد للأفراح الاجتماعية الكثيرة وتبادل الزيارات التى لا تحتاج لمناسبة خاصة، ويتسم كل ذلك بكثرة الزوار وتصاعد أطراف الحديث في أي وقت ودون ضوابط، وهذا كله لا يتيح أي جو للمطالعة أو التفكير العميق".
أماكن أخرى للترويح عن النفس
إلا أن للصحفي المختار ولد التمين، الذي يرتاد المقهى من حين لآخر، رأيا آخر، فهو لا يرى فيه مكانا للترفيه، بل مجرد امتداد لجو العمل أو اللقاءات الخاصة. أما المكان المفضل لولد التمين للاستجمام والترويح عن النفس فهو البادية، لأنها تلائم روح ونفسية المجتمع الموريتاني البدوي".
ومع امتداد الغزو الحضاري لمدينة نواكشوط وغياب دور الحكومة في فتح مراكز استجمام جديدة قادرة على مواكبة حاجة المواطن الموريتاني، أقدمت دار السينمائيين الموريتانيين قبل ثلاث سنوات على خلق فضاء مفتوح أمام المرتادين بنواكشوط أطلقت عليه فضاء التنوع البيئي والثقافي وهو عبارة عن ساحة تجمع بين اللوحات والجداريات الفنية ومظاهر الطبيعة الجميلة.
وتقول ميمونة منت السالك مديرة فضاء التنوع البيئي والثقافي لـDWعربية: "نظرا لغياب فضاءات للترفيه خاصة بالشباب في مختلف أحياء نواكشوط، قرر نادي أصدقاء البيئة والطبيعة سنة 2010 استغلال هذا الفضاء واستصلاحه كي يكون نموذجا ثقافيا وبيئيا يمكن من القيام بأنشطة ثقافية ورياضية مجانية أمام كل الراغبين، فضلا عن كونه مكانا يلتقي فيه الأفراد والعائلات للاستجمام، وهو للأسف المكان الوحيد والمجاني في نواكشوط". وحملت منت السالك وزارة الثقافة والحكومة الموريتانية مسؤولية التقصير في دورها القاضي بخلق فضاءات للمواطنين.
وثمنت المخرجة الموريتانية الشابة السالمة منت الشيخ الولي تجربة فضاء التنوع البيئي والثقافي باعتباره بديلا عن وسائل الترفيه التقليدية التي لم تعد تلائم نفسية ولا طبيعة المواطن الموريتاني اليوم.
وقالت منت الشيخ الولي "في السابق كانت الخيمة هي المكان الثقافي الذي يصنع فيه الشاي ويدور فيه نقاش كل القضايا العامة، لكن مظاهر الحياة اليوم قلصت ذلك الدور دون أن تخلق الدولة أماكن بديلة، فصار الموريتانيون يلجؤون إلى شاطئ المحيط أو الهروب إلى رمال الصحراء بضواحي نواكشوط".
ولذا يعتبر ابتداع فضاء التنوع البيئي والثقافي فكرة رائدة لأنه مكان مفتوح وله جو خاص يتيح خاصية عرض الأفلام تحت السماء بالاستعانة بظلمة الليل، وقد مثل بديلا لهواة السينما في موريتانيا لمشاهدة الأفلام في فضاء مفتوح.
الحكومة تلقي باللوم على العهد السابق
وزارة الثقافة حاولت أن تدفع عنها تهمة التقصير في عدم خلق أجواء للترفيه الثقافي والرياضي في موريتانيا، وبررت غياب ذلك بعدم تخطيط الأنظمة السابقة لتوسع العاصمة نواكشوط.
وقال أحمد ولد بيبني، مدير الترفيه في وزارة الثقافة والشباب والرياضة الموريتانية، إن السياسة الثقافية للحكومات السابقة والبنية التحتية التي تم تشييدها للترفيه كانت مفصلة فقط على مقاس مدينة نواكشوط آنذاك، ولذا فإن أماكن الترفيه التي تم تشييدها لم تكن تستوعب أكثر من 500 نسمة، "ومع تمدد مدينة نواكشوط وجدنا أنفسنا مقيدين بضيق الأماكن المتوفرة أو عدم وجودها أصلا ونقص الآليات لتنفيذ منشآت جديدة".
وقال مدير الترفيه إن وزارة الثقافة بدأت التفكير والتخطيط منذ سنة 2010 لإيجاد حلول لتلك المشكلة وقد تم ابتداء من سنة 2011 المصادقة على بناء مراكز نموذجية للشباب في مختلف الولايات وسيتم بناء قصر كبير للثقافة في نواكشوط، بالإضافة إلى بعض المنشآت الأخرى "التي مازلنا نبحث لها عن التمويل ونتمنى في القريب العاجل".
قلق على أوضاع الشباب في العاصمة
لكن الدكتور أحمد حبيبي باحث في علوم الثقافة يرفض المبررات التي تسوقها وزارة الثقافة بشأن عدم التخطيط لأماكن الترفيه لدى الحكومات السابقة، بل يرى بأن سيطرة مناخ خاص على مفاصل الحياة الاجتماعية في بداية السبعينات وبداية مسلسل الانقلابات على الحكم المدني هي التي حولت حياة الناس إلى مآتم مزمنة.
وقال حبيبي لـDWعربية: "لم تكن نواكشوط هكذا في نهاية الستينات وبداية السبعينات، وإنما كانت هنالك نهضة ثقافية وتنوع في فضاءات الاستجمام، لكن تأثير حرب الصحراء سنة 1976 وما عقبها من انقلاب على أول رئيس مدني، المختار ولد داداه، أدى إلى تراجع المدنية بشكل فظيع فظهرت طبقات لا يهمها سوى التحصيل المادي فحولت الفضاءات الثقافية إلى محلات تجارية وكتمت أنفاس مدينة نواكشوط".
وأضاف أحمد حبيبي أن استمرار هذه الوضعية دفع بعض المثقفين إلى تأسيس بعض المنشآت، ولكنها لم تستطع إعادة نواكشوط إلى سابق عهدها فظلت بعض العائلات تخرج إلى الرمال المحيطة بنواكشوط بحثا عن مظاهر البداوة".
وحذر الدكتور حبيبي من تداعيات هذه الوضعية على مستقبل بعض الشباب الذي قد يرتمي في أحضان الانحراف، لأن نواكشوط مدينة لا تعطي لحياة الإنسان بالمعنى الثقافي أي متنفس.