علاء الأسواني: محاولة لفهم ظاهرة البذاءة ...
١١ يونيو ٢٠١٩في عام 1950 تم انتاج فيلم "آخر كذبة" بطولة فريد الاطرش وسامية جمال. كانت هناك أغنية في الفيلم من كلمات ابوالسعود الأبياري عنوانها: "ما قال لي وقلت له" رفضت الاذاعة المصرية هذه الأغنية لأن بها عبارة: "ياعواذل فلفلوا" وهو تعبير شعبي دارج في مصر لكن الاذاعة اعتبرته هابطا وغير لائق، ويقال إن مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء آنذاك قابل فريد الاطرش ووبخه بسبب هذه الأغنية وذكره بواجب الفنان في الحفاظ على الذوق العام والارتقاء به.
تعاودني هذه الحكاية كلما شاهدت الاعلام المصري الآن وقد تحول إلى مصنع لانتاج البذاءات التي يتم قذفها في وجوه الناس كل ليلة. الشتائم ولعن الأب والأم والتوعد بالضرب بالجزم، كلها أصبحت عبارات معتادة في الاعلام والمسلسلات. على وسائل التواصل الاجتماعي ستجد نفس البذاءة فما أن تختلف في الرأي مع شخص حتى ينهال عليك بالشتائم وقد أمَّن العقاب لأنه مختبئ خلف شاشة الكمبيوتر، أما في الشارع فحدث ولاحرج عن البذاءة التي انتشرت كالوباء.
ان الطبع الطيب المتسامح الذي يميز المصريين كاد أن يختفي، فأصبحوا في معاملاتهم اليومية يتميزون غالبا بالعدوانية والفظاظة بل وظهرت أنواع من الجرائم لم يكن المجتمع المصري يعرفها من قبل، مثل قتل الابن لأبيه أو أمه أو قتل شاب يدافع عن أخته ضد المتحرشين أو اجبار رجل على ارتداء قميص نوم حريمي وتصويره بغرض اذلاله. ما السبب في انتشار البذاءة في القول والسلوك؟
ان الخلق الحسن ليس سلوكا انسانيا منعزلا يمكن اكتسابه بعيدا عن ظروف المجتمع، وانما تنتج الأخلاق عن السياق الاجتماعي السياسي الذي يخرج من الناس أسوأ أو أفضل ما فيهم. أعتقد ان البذاءة المنتشرة الآن تعود إلى الأسباب الآتية:
أولا: الفقر والقمع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تشير دراسة حديثة للبنك الدولي أن عدد المصريين الفقراء (أو المرشحين للفقر) قد قفز من 30 إلى 60 في المائة بعد تطبيق برنامج الاصلاح الاقتصادي. مع تزايد الغلاء الرهيب أصبح الوفاء باحتياجات الأسرة مستحيلا على ملايين المصريين فسقطوا في البؤس لكنهم لا يستطيعون أن يرفعوا أصواتهم بالاعتراض لأن عصا القمع الغليظة ستسحقهم فورا. هذه الحالة من العجز والفقر واليأس والخوف من القمع لا بد ان تنتج سلوكا عدوانيا، لأن من يعجز عن مواجهة المسؤول الحقيقي عن معاناته سيسعى إلى تصريف احباطه في مشاحنات مع آخرين.
ثانيا: أحادية الرأي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يسمح الحكم العسكري في مصر بأي هامش ولو ضئيل من حرية الرأي. كل من يختلف في الرأي مع الديكتاتور أو يوجه له نقدا يعتبره النظام عدوا للوطن ويتم التعامل معه باعتباره ارهابيا أو خائنا تموله مخابرات ما من أجل تخريب مصر. هذه النظرة المتشككة الهستيرية للمعارضين انتقلت للأسف من النظام إلى مواطنين كثيرين، فأصبحوا يتعاملون بعدوانية مع من يختلف معهم سياسيا وقد سيطرت على أذهانهم نظرية المؤامرة فراحوا يبحثون وسط الناس عن "عملاء" مزعومين ..
هناك من أبلغوا السلطات عن شاب لأنه يتحدث بالانجليزية مع صحفي أجنبي وهناك من قدموا شكاوى ضد عرض مسرحي اعتبروه مسيئا لمصر وفي كل الاحوال يتم القبض على "أعداء" الدولة وتتم محاكمتهم بقضايا ملفقة. ان حالة التنمر التي خلقها الديكتاتور لضمان بقائه في السلطة قد انتقلت إلى الناس فصاروا عدوانيين ضد بعضهم البعض.
ثالثا: بذاءة الاعلام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منذ أن تولى السيسي الحكم سيطرت المخابرات على الاعلام واستعانت بأشخاص ليس لهم معرفة أو خبرة بالاعلام ومنحتهم برامج يومية بالساعات ليقوموا بدور الموجهين السياسيين للجماهير فتكون مهمتهم الترويج لسياسات السيسي والتغني بعبقريته وعظمته وفي نفس الوقت التنكيل بكل من يعارضه واغتياله معنويا بالصاق كل انواع التهم المشينة به وبأسرته.
القاعدة الآن في مصر "لا كرامة ولا حقوق لمن يعارض السيسي" هكذا تتم اهانة المعارضين على شاشات التليفزيون وشتمهم بأقبح الألفاظ وانتهاك حياتهم الخاصة والطعن في شرفهم واتهامهم بالعمالة والخيانة ..بالطبع لا سبيل إلى مقاضاة هؤلاء الشتامين لأنهم يتمتعون بحماية النظام، وبالتالي فان أي بلاغات تقدم ضدهم سيتم حفظها. حيث أن الاعلام يشكل النموذج السلوكي للناس فان هذا الفيضان من البذاءات قد أثر على سلوك مصريين كثيرين فصاروا يتعاملون بنفس الوقاحة مع الآخرين.
رابعا: التطبيق الانتقائي للقانون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كل انسان في مصر يعلم ان القانون لايطبق الا على الضعفاء أما أصحاب النفوذ فيكونون فوق القانون. لعلنا نذكر المقاول الملياردير الذي اعترف بالاشتراك في قتل مطربة وصدر ضده حكم نهائي بالسجن لمدة 15 عاما، لكنه خرج قبل اكمال العقوبة بعفو رئاسي على أساس ان صحته متدهورة للغاية ثم شوهد بعد خروجه من السجن بأيام وهو يلعب مباراة في الكرة الطائرة وقد بدت صحته على مايرام، وكذلك المذيع المقرب من النظام الذي صدر ضده حكم نهائي بالسجن وبرغم ذلك سافر مع السيسي إلى الخارج ولم تمنعه السلطات من السفر كما يقضي القانون.
وهناك المحام المشهور ببذاءته الذي يظهر في التليفزيون ويرتكب جريمتي القذف والسب يوميا ضد الكثيرين وهو يعلم انه لن يحاسب على شتائمه لانه أداة يستعملها نظام السيسي ضد خصومه. في ظل غياب العدالة لابد أن يتصرف الناس بعدوانية ليأخذوا حقوقهم بأيديهم.
ان البذاءة المنتشرة في مصر ليست هي المرض وانما أحد أعراض مرض الاستبداد. في الطب، وفي الحياة أيضا، لايمكن علاج الأعراض الا بالقضاء على المرض.
الديمقراطية هي الحل
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.