سوريون في المهجر يبقون شعلة ثورتهم متقدة
٢٥ أغسطس ٢٠١٥أصوات متظاهرين يرددون شعارات احتجاجية تنبعث من مكبرات صوت جهاز الحاسوب النقال. مصطفى شاب ملتحٍ يجلس أمام شاشة الكمبيوتر في غرفة جلوس مرتبة في مدينة أنطاكيا، جنوبي تركيا. وها هي زوجته تجلس إلى جانبه على الأريكة لمعايشة المشاهد التي شاركا فيها سويا قبل أكثر من أربع سنوات. صور رجال ونساء يرفعون أعلاما ويتظاهرون في شوارع اللاذقية، شمال شرقي سوريا.
"لقد كان ذلك اليوم الأول. لقد كان أمرا رائعا: المشاعر وكل شيء، التشويق مصحوب بالترقب"، على ما تقول ليلى وابتسامة تعلو وجهها. زوجها يضحك ويضيف: "لقد اعتقلوني بعد إحدى أكبر المظاهرات الاحتجاجية. كنت أصرخ بأعلى صوتي خلال المظاهرة إلى درجة أني فقدت القدرة على الكلام. وعندما كنت في السجن كانوا يسألونني خلال التحقيق أسئلة، ولكني لم أكن قادرا على الإجابة عليها".
ولكن أموراً كثيرة تغيرت منذ بدايات ما كان الإعلام الدولي يصفه بـ"الانتفاضة" في سوريا. واليوم أصبح مصطلح "الأزمة السورية" متداولا لوصف المعارك الضارية ما بين عدد كبير من الجماعات المسلحة في سوريا. ولكن، وفي عيون ليلى ومصطفى – كما في عيون العديد من السوريين – فإن الأحداث التي تشهدها سوريا كانت ولا تزال تسمى بـ"الثورة".
من انتفاضة إلى حرب طائفية بالوكالة
وقد شهدت مدينة اللاذقية، وهي معقل الرئيس السوري وطائفته العلوية، قبل أسبوعين خروج تظاهرة حاشدة تنديدا بما قام به سليمان هلال الأسد، وهو ابن عم بشار الأسد، من قتل لعقيد في القوات الجوية إثر خلاف على أولوية المرور في مدينة اللاذقية. بيد أن عبود، أحد السكان السابقين لمعقل الأسد يقول، إنه لا يرى أي أمل في أن يكون لهذه الاحتجاجات تأثير كبير على نظام الأسد. "أقصى ما طالبت به هذه المظاهرات كان مجرد معاقبة ابن عم الأسد. ولكننا نعرف أن الأمر لا يتعلق فقط بابن عمه. عائلة الأسد قامت بعدة أمور مثل ذلك. إنه خطأ النظام"، على حد تعبير عبود.
عبود الذي انشق عن الجيش السوري قبل ثلاث سنوات ليلتحق بمنظمة غير حكومية في أنطاكيا، يقول إن المواطنين تحت حكم الأسد لم يكونوا يجرؤون حتى على أن يفكروا أفكارا نقدية للنظام.
ومنذ اندلاع الانتفاضة في عام 2011 أصبح النظام أكثر وحشية. ويقول إن اللاذقية، التي لا تزال عائلته تعيش فيها، ما تزال تحت وطأة إرهاب الشبيحة، لافتا إلى أن عمليات الاختطاف قد أصبحت منتشرة. ويؤكد أن والده قد تعرض للاختطاف على يد الشبيحة قبل ثلاثة أعوام ولم يعد إلى أهله منذ ذلك الحين. ولكن ومع قدوم المقاتلين الأجانب إلى سوريا تزايدت الأعمال الوحشية. وما يزيد من حرقة النشطاء على غرار عبود، أن النظام وصف منذ البداية الانتفاضة السلمية بأنها طائفية يحركها الإسلاميون المتشددون وفقا لأجندات أجنبية. هذه الاتهامات أصبحت اليوم حقيقة مرة.
"في لحظة ما تحولت الثورة إلى شيء آخر"، يقول عبود. "اليوم أصبح لدينا تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة بالإضافة إلى عدد مختلف من الجماعات الإسلامية المتطرفة. وإلى جانب النظام لدينا حزب الله وإيران. لقد تحول الحلم من ثورة إلى حرب أهلية، حرب طائفية. ولم تعد حربا سورية بحتة."
قصة حب في الجبهة وزواج على أرض "محررة"
ليلى ومصطفى عايشا بدورهما هذه التحولات عن كثب. وتصف ليلى كيف تحول نشاطها ضد النظام السوري في اللاذقية من رسم الغرافيتي على الجدارن إلى تهريب الأسلحة إلى مقاتلي الجيش السوري الحر المختبئين في الجبال الواقعة شمالي المدينة. ومن بين هؤلاء المقاتلين مصطفى الذي كان اسمه الحركي آنذاك "أسد الإسلام". وتروي ليلى أنها خلال إحدى مثل هذه المهمات اتصل بها صديق وحذرها من العودة إلى بيتها لأن النظام كان يبحث عنها. "لذلك أخبرت الشباب أني أريد البقاء معهم"، عل ما تقول ليلى. "وكان هناك القائد، أبو بصير، الذي وافق وقال لي لقد اصبحت الآن جزءا من العائلة. وكان هناك أسد الإسلام الذي رفض بقائي وقال: لا يمكنها ذلك، فماذا ستفعل هنا؟".
ولكن كان لديها الكثير لفعله، حيث عُهدت إليها مسؤولية مخازن الذخيرة والعمل على التأمين اللوجيستي. بيد أن أسد الإسلام لم يكن سعيدا بذلك. وعندما لم تجد تبريراته آذانا صاغية، طلب منها أن تلتحق بالجبهة مثقلة بالأسحة ومحمية فقط بسترة واقعية من الرصاص. ويقول مصطفى إنها نجحت في الاختبار بـ"تألق". وبعدها اكتشف أنه وقع في حبها. وكان مصطفى وليلى أول من تزوج في منطقة يسيطر عليها المتمردون، على ما يقول الزوجان. بيد أن زواجهما لم يكن مرحبا به من قبل حلفاء الجيش السوري الحر في ذلك الوقت: "داعش". والسبب يكمن في أن زوجة مصطفى نصف كرواتية وهؤلاء اعتبروها جاسوسة. وأتت القطيعة النهائية ما بين الجيش السوري الحر و"داعش" في يونيو/حزيران عام 2013 عندما قام التنظيم باغتيال القائد الميداني للجيش السوري الحر كمال الحمامي، المعروف باسم أبو بصير، ذلك الرجل الذي رحب بليلى في صفوف قواته.
"عندما يخوننا من استقبلناهم وآويناهم"
"لقد شكل اغتياله فارقة في تاريخ الثورة. قبل ذلك لم نكن قادرين على رؤية أن داعش يشكل تهديدا شديد الخطورة على الثورة السورية. وبعد تلك الحادثة قررنا القتال ضدهم"، يقول مصطفى. "المفاجأة المريرة أن العدو جاءنا من الناس الذين استقبالناهم وآويناهم". ويضيف قائلا: "أناس توقعنا أن يقاتلوا إلى جانبنا وأن يحمونا. لم نكن لنتوقع أبدا أن نتعرض للغدر والخيانة على أياديهم". بعدها أقنع مصطفى زوجته ليلى بالانتقال مع ابنتهما الرضيعة إلى تركيا، لأنهم سيكونون هناك أكثر أمنا.
ولايزال عبود ومصطفى وليلى يتذكرون بداية الثورة وما صاحبها من آمال وابتهاج. ولكن ذلك لا يعني أن لهم نفس الرؤى لمستقبل سوريا: فمصطفى سلفي، بينما يريد عبود دولة علمانية. وعلى الرغم من ذلك لديهم الكثير من القواسم المشتركة. "آراؤنا أنا ومصطفى مختلفة عن بعضها البعض،" على ما تقول ليلى. "ولكن في نهاية المطاف لا نريد أن يفكر كل السوريين بنفس الطريقة. وهذه هي الثورة. أنا بإمكاني أن يكون لي رأيي الشخصي وهو رأيه الخاص به. إذا ما كنت اشتراكيا أو ليبراليا أو حتى إسلاميا، فهو أمر مقبول طالما أنك لا تجرح أي أحد آخر. هذا هو الأمل منذ البداية وحتى الآن: أن يكون لكل فرد الحق في التعبير عن آرائه الشخصية".
ثورة متواصلة وأمل في وطن يجمع كل السوريين
ويقول كلاهما إنهما يؤمنان بأن مثل هذه الرؤية يمكن أن تجمع جميع السوريين وراءها – رؤية يربطها الإيمان بشيء تخلى أغلبية العالم عن الأمل فيه. ولكنهما في الوقت نفسه واقعيان بشأن التحديات التي تواجهها الثورة السورية. "إذا أردت العودة للكفاح من أجل ما كنا نكافح ضده في البداية، فعليك أن تبعد داعش"، على حد تعبير ليلى. وتضيف قائلة: "لا يمكننا محاربة الأسد لوحده".
في غضون ذلك، يواصل مصطفى عبور الحدود إلى سوريا للقتال ضد تنظيم "داعش"، الذي أصبح يحمل اسم "الدولة الإسلامية". أما ليلى فتعمل مع الأطفال السوريين في تركيا، حيث تعلمهم الرياضيات وغيرها. ولكنها غير راضية عن الوضع. "إلى حد الآن بذلنا كل ما بوسعنا لمساعدة الثورة. ولكن بإمكانا القيام بالمزيد لو كنا داخل سوريا لأن الأطفال بحاجة أمسّ إلينا". وتؤكد أنها مستعدة للعودة إلى سوريا، وتقول: "أحاول التخطيط لعودتنا، الآن، غدا أو بعد غد. ولكن الحدود مغلقة. هناك الدولة الإسلامية وهناك جبهة النصرة والوضع خطير جدا. لا أعرف ماذا سيحمل إلينا المستقبل في طياته. ولكن هذا هو مشروعنا: العودة إلى سوريا".