رشا حلوة: لماذا تُغيَّب الفضاءات العامّة للرقص؟
٢١ فبراير ٢٠١٨من الأشياء التي تُفرح الأمهات والآباء، عندما يبدأ طفلهم/ن بالتفاعل مع المحيط الخارجيّ، هي أن يرقص أو ترقص عندما يغنّوا له/ها أو يشغلون الموسيقى، من خلال حركة الأيادي أو الجسد، سعادة الوالدين هذه كما هي لدى المجتمع المحيط نابعة أساسا من فكرة أن الرّقص هو تعبير جسديّ عن السّعادة، أو لنقل، هو تعبير بدائيّ وجميل عن ما يشعره الطفل الذي لا يمكنه الحديث بعد، وبالضرورة، هذه العلاقة بين الرّقص والتعبير الجسديّ الموصول بالتعبير الذاتيّ والعاطفيّ، لا يمكن أن تتغيّر كثيرًا مع المراحل العمريّة للطفل إلى أن يصل إلى الشيخوخة، يبقى الرقص تعبيرًا جميلًا، لكننا، لماذا نحدّ منه مع الوقت؟
الحدّ منه، هو ليس بالضرورة الحدّ من الفرد عن ممارسته، فالناس يرقصون وحدهم إن شاءوا، نحن الذين قلنا: "على بال مين يا اللي بترقص بالعتمة؟"، إنّما بالحدّ منه فالقصد هو تضييق مساحات ممارسته جماعيًا، في الفضاءات العامّة، عدا عن الطقوس "المقبولة" اجتماعيًا، وبأساسها هي الأعراس، عن هذا تقول علياء من فلسطين: "عندما أذهب إلى الأعراس في بلدي، وأرى كيف يرقص الرجال والنساء، أشعر أن الأعراس هي نوادي المجتمعات العربيّة الليليّة، أي لا يخرج الناس نهاية الأسبوع ليرقصوا، لكنهم يذهبون إلى الأعراس. هذه المساحة الوحيدة المتوفّرة للرقص في مجتمعاتنا. وأنا كفتاة عربيّة، عندما أرغب في الرّقص، أرقص لوحدي في البيت، وأعرف بأنه في حال رآني أحد، سيقول عني مجنونة، لكن الرّقص يعطيني شعورًا جميلًا".
في حديثنا عن الرّقص أولًا، القصد هو الرّقص الترفيهي، أي الرّغبة البسيطة والأولى للفرد أن يرقص على الموسيقى التي يحبّها؛ عربيّة، هنديّة، هيب هوب، إلكترونيّة وغيرها، وأن لا تقتصر رغبته "عَ بالي أرقص"، فقط على الرّقص في فضاءات خاصّة أو لوحده، فالرّقص الفرديّ وسط آخرين يرقصون أيضًا، له تأثيرات إيجابيّة، وفي حديثنا عن الفضاءات العامّة للرقص، فهي بإمكانها أن تحتوي أشكالًا عديدة؛ سواء مراكز جماهيريّة تعمل على لقاءات رقص جماعيّة، أو بارات رقص أو نوادي ليليّة، هي مساحات تخصص للرقص، وهذا بالتأكيد ليس عيبًا، أو كما يُحكم عليه اجتماعيًا بشكل سلبي غالبًا، أو على من يذهب، أو غالبًا تذهب، للرقص في الأماكن المخصّصة لذلك، في حال كانت متوفّرة.
عن هذا تقول نورا من فلسطين: "الرّغبة بالرقص بكل أنواعه، هي أساسيّة في حياتي، عمومًا، عندما أرقص في أماكن مخصصة للرقص، أحاول أن أرقص بحريّة قدر المستطاع، لكني لا أنجح تمامًا. أطر الرقص لدينا محدودة، والناس الذين يذهبون للرقص فيها، عددهم محدود أيضًا، عدا عن أنه تم في أحيان كثيرة تصويري في هذه الأماكن، والأمر ليس مريحًا أبدًا، فلم تعد لدي رغبة أن أذهب للرقص في أماكن عامّة، صرنا نعمل حفلات صغيرة لمجموعة من الأصدقاء تعرف بعضها البعض، ونرقص. المساحات قلّت وتقلّصت، لكن الرغبة بالرقص ما زالت موجودة، أوّل ما أفعله عندما أسافر هو أني أبحث عن مكان للرقص، أستطيع فيه أن أصعد على الطّاولة وأرقص على طبيعتي".
نورا تطرقت لأمر أساسيّ، وهو أنّه حتى مع توفّر بعض الفضاءات العامّة، ليس بالضرورة أن تشعر النساء بالرّاحة للرقص فيها، خاصّة في عصر التكنولوجيا وإمكانيّة توثيق كلّ شيء بصريًا، أي فيديو أو صور، نعم، سنسمع أصوات تقول: "لو لديك مشكلة بأن تتصوري، لا تذهبي لهذه الأماكن"، لكن ماذا عن الحريات الفرديّة؟ وبأن ليس من حق أحد أن يصوّر أحد في الفضاءات العامّة بلا إذنه؟ كما أنه من المفترض، على كل الأماكن المخصصة للرقص، أن تعلن بوسائل عديدة، منها حتّى وضع لاصقات على كاميرات الهواتف النقّالة، بمنع التصوير بتاتًا، الأمر الثاني هو، ما هي الرّغبة النابعة من تصوير الناس وهي ترقص؟ أيًا كانت مناسبة الرّقص أو مكانه؟ أليست في جزء منها هي نظرة اتهاميّة لكل فعل الرّقص، خاصّة إن كان الحديث عن النساء؟ عن هذا تقول صديقة: "أعتقد أن الأزمة لا تكمن بوجود أو انعدام أماكن مخصّصة للرقص، إنّما بأن تشعري بأنه بإمكانك الرقص، بأنه يمكن أن نسافر ونرقص خارج البلاد براحة كاملة، حتّى بالشارع، والسماح لأنفسنا بفعل ذلك، مقابلة عدم توفّر هذه الإمكانيّة لدينا".
لا يمكن في حديثنا هذا، حول العلاقة بين الحاجة الإنسانيّة للرقص وبين توفّر الفضاءات العامّة له، أن نتجاهل نظرة بعض العقول في المجتمعات إلى المرأة، أو النساء، اللواتي يرغبن ويعملن على الذهاب للرقص في فضاءات عامّة إن توفّرت، امتدادًا لهذا، وفي حديث مع محمد من مصر، قال: "كان لدي موقفًا مجتمعيًا من النساء اللواتي يرقصنَ، واعتقادي بأنهن منحلّات وبلا أخلاق. ونوع الرّقص الوحيد الذي كنت أعرفه هو الشّرقي. بعد انفتاحي على العالم وتجارب أخرى، تعرّفت على تجارب رقص ثانيّة، رأيت عروض رقص معاصر في شوارع إسكندريّة، واقتربت من هذا العالم وورشات الرقص والراقصين/ات، بأنواع رقصهم/ن المتنوعة، واستيائي من الرّقص تحوّل إلى استمتاع، وبدأت أقرأ عن فلسفة الرّقص وكونه أسلوب علاج أيضًا، وبدأت أشعر بتأثير الرّقص على مزاجي إيجابيًا".
خلال حديثه، تذكر محمد طفولته مع والدته، عندما كانا يرقصان سويةً على أغانٍ شرقيّة، ويتابع: كنا نرقص ونضحك حتى نتعب، وعندما كبرت، أخذت موقفًا من الرّقص على الرّغم من أن هذا الأمر لم يولد من البيت إنما من خارجه، من الأجواء المحافظة التي اختلطت بها، اليوم أرقص في حفلات بيوت أو نوادي ليليّة أو بارات وحين أغسل المواعين أو حتى حين أغلق باب الغرفة على نفسي".
كان وما زال الرّقص أحد العواميد الأساسيّة في ثقافات الشعوب، على تنوعها وتنوعه، سواء الرّقص الفرديّ أو الجماعيّ، وفي ثقافاتنا العربيّة أيضًا، وهو أحد الوسائل للتواصل مع الذّات في زمن يعمل على القطع المتواصل بيننا وبين ذواتنا، كما أن الرّقص يُستخدم اليوم، كأسلوب لعلاج أمراض عديدة، منها النفسيّة. على الرّغم من قلّة فضاءات الرّقص العامّة وغيابها في بلادنا لأسباب عديدة، منها أيضًا النظرة الاجتماعيّة السلبيّة تجاهها وتجاه كلّ من يقصدها/ تقصدها للرقص، والادعاء بأنها لا تناسب عاداتنا وتقاليدنا، إلّا أن محبّي الرّقص يبتكرون دومًا طرقًا لممارسته، ويخلقون مساحات للتعبير عن ذواتهم بالرّقص، وبالتأكيد، الرّقص ليس شيئًا دخيلًا على حيواتنا، إنما هو من أكثر التعابير طبيعيّة للبشر وأجسادهم، وبالتالي، بالضرورة، وجوده له معنى، لذا فلنسمح بممارسته، بلا أحكام ولا تضييقات، لأنه بالفعل يجعلنا سعداء.
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبته وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW