حرب العميان ـ لا أحد في مصر يريدها.. لكنهم يسعون إليها
٧ يناير ٢٠١١لا أحد في مصر تقريبا يريد الوصول إلى هذه النقطة: الاقتتال الأهلي، أو حرب الطوائف. موديل لبنان بدمويته وتراجيديته مازال ماثلا، الجميع لا يريد تكراره، بمن فيهم الذين شحنوا بطاريات الاحتقان الطائفي سواء في سلطة تعتبر التمييز أمرا واقعا، أو معارضة إسلامية تراه هدفا منشودا، أو كنيسة تراه مبررا لاتساع سلطتها على "شعبها".
كلهم يسعون إلى الحرب، كالعميان، لكنهم جميعا يخافون منها عندما تقترب. سياسات الدولة تميز ضد الأقباط، وتفقد عدالة توزيعها للاضطهاد وتزيد من نصيب الأقباط، إلا حين يتحولون إلى ضحايا. والإسلاميون يبثون وعيا ينتمي إلى مجتمعات التمييز في الخلافة، حين كان الأقباط يرتدون اللون الأزرق ويركبون الحمير بالعكس. والمسيحيون ينعزلون كلما علت صيحات المتطرفين بين المسلمين، كأنهم ضيوف فعلا و كأن لذتهم في أن يتحولوا إلى شهداء.
كل هذه الأطراف تقف على أطلال "دولة" ظلت تحت الإنشاء منذ اقتناص الضباط الصغار في يوليو ١٩٥٢ السلطة، ومصادرتهم للمجال السياسي، لأنهم بلا سند اجتماعي أو سياسي وبلا خبرات في الحكم وتسييدهم مبدأ التجريب: "التجربة و الخطأ" باعتباره "خصوصية" في بناء السلطة.
تفجير كنيسة القديسين رمز لهذه الأطلال؛ فالدولة التي قادت المنطقة إلى أفكار التنوير، تدخل عصر القتل على الهوية. والقضية هنا ليس مجرد موجة جديدة من الإرهاب، أو مجانين الله المهووسين بفكرة: تفجير المجتمع من أجل تطهيره من الذنوب والمعاصي. فكرة التفجير ليست عابرة، إنها وسيلة موجودة في لاوعي المجتمع. تقال أحيانا على سبيل الدعابة: "نحتاج نسف هذا البلد وهذا الشعب .. لكي نبدأ على نظافة".
البداية من جديد: فكرة انقلابية تسيطر على الخيال المنشغل بالأحوال العامة، الإسلامي يريد إمارة إسلامية، والمسيحي يحلم باتساع الكنيسة وامتداد أسوارها ليضمن الحماية الأبدية، والرومانتيكيون يحلمون بأن تصبح مصر بغمضة عين "قطعة من أوروبا ".
أحلام مجهضة كلها، لكنها تتضخم لأنها تظل مكبوتة، فقنبلة قد تنفجر بصاحبها في وجه الجميع، الإسلامي يتضخم شعوره النرجسي بأنه لابد أن ترفرف أعلام الجيوش الإسلامية على كل أنحاء مصر وتعود دولة الخلافة بحنانها مع المسيحيين الضيوف. والنظام ينشغل بحروبه الداخلية ويختار خلطة تجمع بين كل الأصباغ الموجودة ليبدو مع كل خصم هو الأعلى: إسلامي أكثر من الإسلاميين ومتسامح أكثر من دعاة الوحدة الوطنية، تتكاثر الأصباغ والأقنعة لتبدو وحدها أهرامات في فراغ كبير.
الأقلية تظل أقلية في الواقع وبدون اعتراف من قبل النظام ومسؤوليه. الأقباط أقلية سرية، لا تعرف موقعها في بناء الدولة، كما لا يعرف أحد أيضا، لا المؤسسات الحاكمة، ولا القوة المتحكمة، ولا أحد سوى من يستطيع الوصول إلى الحكم وتزكيته من قبل كهنة سريين، يدفعونه إلى تصدر المسرح: لماذا؟ ووفق أي معايير؟ لا أحد يعرف. وهو ما تكرر في خلافة عبد الناصر ومن بعده السادات، ورغم تغير النظام الانتخابي إلا أن القائمين على السلطة، بذلوا مجهودا خرافيا ليبدو النظام الجديد مجرد قناع، لتعود به سلطة الاختيار للكهنة خلف الستائر السوداء.
القنوات مسدودة أمام الجميع، ولا اختيار إلا الجماعة الصغيرة، تحاول الاحتماء والاستواء، وداخل الجماعة هناك وعي يقدس الانتقام كوسيلة دفاع عن الذات، ومن أجله يصنع الأعداء، ويختار الضحايا، وتُبرر المذابح والقتل بل ما هو مقدس. والتبريرات أكثر قسوة من القتل ذاته، وهذا ما يجعل الأطراف كلها تتجاوز الواقعة وتبحث لأول مرة عن جذورها، الأقباط يصرخون: "نريد حقوقنا"، وكأنهم دفعوا الدم ضريبة لكسر السكوت المقهور. والمسلمون حائرون بين أفكار لم تدخل في الوعي العام عن التسامح والتعايش والتنوير، وبين تربية السنوات الأخيرة التي جعلتهم يرسمون صورة لذات متضخمة، نرجسيتها مجروحة، لا علاج لها إلا روشتة (وصفة) مكتوبة في الكتب الصفراء منذ خمسة عشر قرنا.
الذاكرة مشوشة في الطرفين، أقلية منسحبة وأغلبية مجروحة، لا تحتفظ الذاكرة الجماعية سوى بهزيمة في بناء دولة حديثة، تصل الآن إلى حدود خطرة، يخافها الجميع، لكنهم لا يملكون سوى الصراخ الهستيري، ولا أكثر من ذلك. هنا ربما من بين هذه الأطلال يولد صوت عقل، بعيدا عن الآهات والصرخات والجراح يستوعب جراح وهزائم تراجيديا الستين سنة، ليشير إلى بداية من جديد، لكن بدون تفجير …هل هذا هو المستحيل؟
وائل عبد الفتاح، كاتب وصحافي مصري
مراجعة: أحمد حسو