من "المقبرة والنصب التذكاري الأمريكي بشمال أفريقيا"، في ضاحية قرطاج الشمالية للعاصمة تونس، اختار وزير الدفاع مارك إيسبر، أن يوجه منها رسائله إلى دول المنطقة التي يزورها: تونس، والجزائر والمغرب، وقوى أخرى يستهدفها التحرك الأمريكي في شمال أفريقيا.
وهو يقف أمام المقبرة الأمريكية الوحيدة من نوعها في القارة الأفريقية، يذكّر إيسبر بأن علاقات بلاده العسكرية مع دول المنطقة عريقة وبأن الأمريكيين ضحوا تاريخيا من أجل المساهمة في تحرير هذه البلدان من الغزو النازي في عهد هتلر.
في المقبرة الأمريكية بقرطاج يرقد زهاء ثلاثة آلاف جندي أمريكي، وعلى مسافة عشرين كيلومترا فقط توجد بضاحية برج السدرية جنوب العاصمة تونس، المقبرة العسكرية الألمانية وبها رفات أكثر من ثمانية آلاف من الجنود الألمان الذين سقطوا في الحرب العالمية الثانية بين قتلى وأسرى توفوا ثم دفنوا هناك.
تقع المقبرة الأمريكية على مساحة 12 هكتارا في قلب منطقة أثرية تعود إلى العهد الفينيقي، وهي مرصعة بزخارف لحضارات تونس القديمة، وضمنها لوحة فسيفسائية من العهد الروماني، اكتشفت بالموقع وتبرع بها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة في عام 1959 للأمريكيين.
لم تكن أمريكا فقط الحليف القوي في شمال أفريقيا ضد القوات النازية، ولكن أيضا مؤيدا لاستقلال الدول المغاربية من الاستعمار الفرنسي. ولذلك تحتفظ شعوب ودول هذه المنطقة بودِّ قديم للولايات المتحدة، يجعل روابطها معها مختلفة عن علاقاتها بفرنسا، المثقلة بالماضي الاستعماري.
أين تقع نقطة الالتقاء؟
وهو يذكّر بأدوار بلاده التاريخية في شمال أفريقيا، يدرك رئيس البنتاغون أن القادة المغاربيين كما هو الحال أيضا بالنسبة لرئيسه دونالد ترامب، يهمهم في المقام الأول التعامل مع المشاكل والتحديات الأمنية والاستراتيجية المستجدة في هذه المنطقة الحسّاسة من العالم، وفي مقدمتها الحرب على الجماعات الإرهابية، وهذا ملف تتفق إدارة الرئيس ترامب مع العواصم المغاربية حوله. حيث بات الطرفان يدركان المخاطر المتزايدة لتنظيمي "داعش" و"القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء، إضافة إلى تنظيمات متطرفة أخرى محلية من أبرزها جماعة "بوكو حرام".
وتوجد مؤشرات كافية على "الخطر الإرهابي" كما جاء على لسان وزير الدفاع الأمريكي، وهو يشير إلى الأزمة الليبية والاضطرابات في مالي وجوارها جنوب الصحراء، فهذه المنطقة الغنية بمواد الطاقة والمدججة بأطنان الأسلحة، وتمتد لآلاف الكيلومترات عبر تضاريس صحراوية وجبلية، تحولت إلى أهم بؤرة لتجمع العناصر الإرهابية، بعد هزيمتها في سوريا والعراق.
والحرب على الإرهاب وإنهاء القتال في ليبيا، هدفان كفيلان بأن تعتمد عليهما إدارة الرئيس ترامب لتعميق التعاون الأمني والعسكري مع البلدان المغاربية الثلاثة، حتى دون تنسيق فيما بين هذه الأخيرة. إذ تتضمن اتفاقية التعاون العسكري التي وقعها وزير الدفاع الأمريكي مع نظيره التونسي، "خارطة طريق للتعاون الأمني والعسكري" لعشر سنوات، ستغطي احتياجات تونس اللوجستية والأمنية على حدودها، البحرية والبرية وخصوصا مع ليبيا. ومقابل ذلك تتضمن الاتفاقية بنودا تستجيب جزئيا لعمليات عسكرية تريدها الولايات المتحدة أن تنطلق من تونس، وضمنها استخدام بعض القواعد في هجمات طائرات الدرون (بدون طيار) ضد مواقع الجماعات الإرهابية في شمال أفريقيا وجنوب الصحراء. كبديل عن إقامة قاعدة عسكرية أمريكية.
ويرى مراقبون بأن توقيع اتفاقية التعاون العسكري مع تونس، يشكل خطوة جديدة في تعزيز العلاقات الوثيقة بين الجانبين التي أخذت دفعة قوية بعد الثورة التونسية، حيث منحت الولايات المتحدة في ظل قيادة الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، تونس الديمقراطية الناشئة، في سنة 2015 صفة "حليف من خارج حلف الناتو".
ومع المغرب الحليف التقليدي للولايات المتحدة، وخصوصا في ظل الرؤساء الجمهوريين، يوجد تعاون عسكري وثيق وتعتمد المملكة على السلاح الأمريكي لتجهيز جيشها بنسبة وصلت إلى 91 في المائة خلال السنوات الخمس الأخيرة، وتسعى حاليا لإقتناء طائرات إف 16 ومنظومة صواريخ "تاو".
وبحسب أحدث تقرير لمعهد السياسات الدولية بواشنطنفان المغرب يعد من أهم مستوردي الأسلحة الأمريكية في شمال أفريقيا، إذ بلغت قيمتها خلال السنوات الخمس الأخيرة حوالي 10 مليار دولار.
بيد أن التحديات الأمنية الجديدة هي ما يهيمن على أجندة التعاون التي يبحثها وزير الدفاع الأمريكي في الرباط، إذ سبقت زيارته مشاورات بين ديفيد فيشر السفير الأمريكي وعبد اللطيف الحموشي مدير عام الأمن الوطني المغربي، حول تطوير التعاون بين الوكالات الأمنية والاستخباراتية الأمريكية وجهاز جهاز الاستخبارات الداخلية (المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني (DST الذي يتولى ملف مكافحة الإرهاب في المغرب وله خبرة واسعة في أفريقيا وأوروبا في هذا المجال.
ترامب في ملعب "الدب الروسي" و"العملاق الصيني"
ويزور مارك إيسبر الجزائر الخميس(فاتح أكتوبر تشرين أول 2020) في أول زيارة لوزير دفاع أمريكي منذ خمسة عشر عاما والثانية من نوعها في تاريخ الجزائر المستقلة، وكانت الزيارة السابقة من طرف دونالد رامسفيلد في ظل الرئيس الجمهوري بوش الابن في ذروة أزمة غزو العراق.
وسيكون ملف مكافحة الإرهاب أرضية ملائمة للتفاهم بين إيسبر والرئيس عبد المجيد تبون وقادة المؤسسة العسكرية النافذة في الجزائر والتي يتوقع أن يتوسع نفوذها خارجيا بفعل تعديلات يجري إدخالها على الدستور الجزائري، فيما يعتبر تغييرا تاريخيا في عقيدة الجيش الجزائري، حيث صادق البرلمان على تعديل دستوري سيعرض على استفتاء في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وينص على السماح للجيش بالقيام بمهام خارج البلاد.
بيد أن مهمة رئيس البنتاغون ستكتسي صعوبة خاصة في الجزائر مقارنة بتونس والمغرب، ليس لأن الجزائر لا تُعد حليفا تقليديا للولايات المتحدة، بل لأسباب أخرى. فالجزائر كانت تاريخيا في زمن الحرب الباردة من أهم أقطاب المعسكر الاشتراكي بالقارة الإفريقية، لكن علاقاتها ظلت متينة مع واشنطن منذ سبعينيات القرن الماضي، وتوثقت أكثر على المستوى الأمني بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أيلول 2001، في الحرب على الإرهاب.
لكن الجزائر ما تزال بعيدة عن أن تكون حليفا واضحا على المستوى العسكري مع واشنطن، لأنها تقيم علاقات استراتيجية قوية مع روسيا والصين. حيث تعتبر روسيا المزود الأول بالسلاح للجيش الجزائري الذي يُخصص له سنويا ما يناهز10 مليارات دولار يذهب معظمها إلى صانع السلاح الروسي، والصين هي الشريك التجاري الأول للجزائر وتتجاوز قيمة صادراتها السنوية لها 6 مليارات دولار. في وقت تنظر فيه واشنطن بقلق كبير لتنامي نفوذ "الدب الروسي" و"العملاق الأصفر" في القارة الأفريقية.
تحت ضغط النفوذ العسكري والسياسي الروسي المتنامي في ليبيا وفي بلدان جنوب الصحراء، أظهر الأمريكيون وبعد تأخر شديد، "حرصهم" على احتواء الجولة الثانية من التمدد الروسي في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، بعد جولة أولى خسرها الأمريكيون وكانت في شرق المتوسط على الجبهة السورية. وخلال الجولة المغاربية التي قام بها قائد قوات أفريكوم مؤخرا، سعى البنتاغون لإقناع تونس بإقامة قاعدة عسكرية لمواجهة تداعيات النفوذ الروسي في ليبيا.
ويدرك صانعو القرار الأمريكي أن مشكلتهم الكبرى بدأت برد فعلهم المتردد والمتأخر وثانيا بضعف تنسيق استراتيجيتهم مع الشركاء الأوروبيين. "سياسة فرنسا الأُحادية وتذبذب السياسة الأمريكية ساهمت في خلق وضع أمني سيء في منطقة غرب أفريقيا وعدم استقرار دولها. وفتحت الباب لروسيا والصين"، يقول الباحث سامويل راماني بجامعة أوكسفورد، في مقال له بمجلة "فورين أفيرز" الأمريكية المتخصصة في السياسة الخارجية، في عددها لشهر سبتمبر/أيلول 2020.
والتنافس الأمريكي الأوروبي ليس وليد اليوم، بل يعود إلى عقود، ومن أهم محطاته التنافس في منتصف التسعينات بين مشروع الشراكة الأوروبية المتوسطية ومبادرة آيزن ستات الأمريكية في عهد إدارة الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون.
ويرجح محللون بأن تكون مفاوضات الأمريكيين مع القادة الجزائريين صعبة للغاية في ملف العلاقات الجزائرية "الثقيل" اقتصاديا وعسكريا مع روسيا والصين.
وفي مواجهة لعبة توازنات معقدة تديرها الجزائر الغنية بموارد الطاقة وذات القوة العسكرية الأولى في شمال أفريقيا، في علاقاتها مع القوى الكبرى، قد يكفي الرئيس ترامب "تنازلات" ولو محدودة، في ظل حاجته الانتخابية الملحة إلى أصداء إعلامية وسياسية لتحركات إدارته، وقد تكون مادتها الرئيسية في اتفاق حول الملف الليبي ورفض التدخلات الأجنبية في البلد المغاربي المضطرب، والتعاون ضد الإرهاب في جنوب الصحراء الأفريقية.
ملفات صعبة عالقة في طريق البنتاغون
توجد في المنطقة المغاربية ما يكفي من الملفات الشائكة التي تجعل مهمة وزير الدفاع الأمريكي الباحث عن "مكاسب انتخابية" لرئيسه صعبة، وضمنها ملف الصحراء الغربية الذي عاد للواجهة في الآونة الأخيرة بعد إعلان عناصر من جبهة البوليساريو إغلاق معبر الكركارات بالمنطقة العازلة، وسط قلق أممي من تعطيل حركة التبادل التجاري والبشري والإنساني. ويعد هذا الملف واحدا من النزاعات المزمنة بالمنطقة، وانتهجت إزاءه الإدارة الأمريكية سياسة براغماتية تتراوح بين تأييد متحفظ للحليف التقليدي المغرب وعدم مواجهة صريحة للجزائر.
ورغم أن المغرب كان مؤيدا لحملة منافسته هيلاري كلينتون في الانتخابات السابقة، فان الرئيس ترامب وعلى غراره أسلافه الجمهوريين، لم يشذ عن قاعدة تأييد الحليف المغربي في مقترحه بإقامه "حكم ذاتي موسع" بأقاليم الصحراء الغربية، إذ تعتبره الإدارة الأمريكية مقترحا "واقعيا وذو مصداقية"، الأمر الذي لا تنظر إليه الجزائر بعين الرضا.
بيد أن علاقات واشنطن مع حليفتها الرباط ليست دائما على بساط من حرير. فعندما تحين بعض "الاستحقاقات" في أجندة الإدارة الأمريكية سواء لدواع إقليمية أو انتخابية بالخصوص، كما هو الحال الآن، لا تساير الرباط بالضرورة انتظارات حليفتها. فمنذ بداية السنة الحالية سعت إدارة الرئيس ترامب، عبر قنوات خلفية وزيارات عديدة قام بها وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الرئيس ترامب وصهره جاريد كوشنير، لإقناع المغرب في مرحلة أولى بخطة "صفقة القرن" وطورها الجديد المتمثل في الانضمام للدول العربية الموقعة على اتفاقيات تطبيع للعلاقات مع إسرائيل.
لكن ملك المغرب الذي يرأس لجنة القدس التي تمثل 54 دولة مسلمة عضو في منظمة التعاون الإسلامي، لم يساير لحد الآن الرغبة الأمريكية المتكررة. وفي ذروة احتفال البيت الأبيض بالاتفاق بين الإمارات والبحرين وإسرائيل، وبينما كانت تسريبات إسرائيلية وأمريكية تتحدث عن قرب انضمام المغرب، خرج رئيس الحكومة سعد الدين العثماني معلنا أن "موقف المغرب باستمرار ملكا وحكومة وشعبا هو الدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني والمسجد الأقصى".
بيد أن المغرب بحكم عوامل عديدة، هو أبعد ما يكون عن أن يكون في الجبهة الأخرى المناوئة لخطوات التطبيع مع إسرائيل، بحكم دوره التاريخي في المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، من ناحية، وبحكم روابط خاصة يقيمها مع اليهود المغاربة في إسرائيل، ذوي الثقل والنفوذ في الحياة السياسية الداخلية في إسرائيل وفي دوائر صنع القرار الأمريكي.
وإذا كان تطور شراكة الولايات المتحدة التاريخية مع المغرب، لا تقف في طريقه تعقيدات ملف العلاقات مع إسرائيل، فان العلاقات مع بلدان المغرب الأخرى تبدو أكثر تأثرا سلبيا بهذا الملف. فالجزائر وعلى لسان رئيسها، أعلنت صراحة معارضتها لخطوات التطبيع الحالية مع إسرائيل. وفي تونس، التي استثمر رئيسها قيس سعيّد مناهضته للتطبيع مع إسرائيل في حملته الانتخابية بل اعتبره "جريمة وخيانة عظمى"، لن يجازف - على الأقل علنا - بالانعطاف 180 درجة.
واليوم وبغض النظر عن حجم سعي إدارة الرئيس ترامب إلى تحقيق مكاسب سياسية في علاقاتها مع دول المنطقة، تكون قابلة للاستثمار في حملته الانتخابية، فان طريق شراكة استراتيجية عميقة بين هذه الدول والولايات المتحدة ما تزال بعيدة المنال. ولكن الرئيس ترامب بحاجة إلى مكاسب ظرفية وعاجلة حتى في ظل عدم تحقيق اختراق في علاقات هذه الدول مع إسرائيل في الوقت الحالي على الأقل.
منصف السليمي