العلاقة بين الدين والدولة تحت المجهر
يُعد تنظيم العلاقة بين الدين والدولة ركيزة من الركائز الأساسية التي يقوم عليها النظام الديمقراطي في دول أوروبا الغربية. ورغم التباين الواضح في تحديد مدى تأثير العامل الدينى على العملية السياسية على أرض الواقع، إلا أن هناك إجماع ديمقراطي عام على ضرورة الفصل بينهما وفي نفس الوقت الحفاظ على مبدأ حرية العقيدة كحق من حقوق الإنسان الأساسية.
خلاف أوروبي حول الإشارة إلي الدين
الخلاف بين الدول الأوروبية حول الإشارة إلى الجذور المسيحية- اليهودية لأوروبا يُظهر صعوبة التوصل إلى صيغة مشتركة لآلية فصل الدين عن الدولة. فالدول الأوروبية التي تعيش فيها أغلبية كاثوليكية مثل بولندا وإيطاليا ومعها أحزاب المعارضة المسيحية مثل الحزب الديمقراطي المسيحي في ألمانيا، أصرت على الإشارة إلى الدين المسيحي كجزء لا يتجزأ من الهوية الأوروبية. وعلى النقيض من ذلك أصرالموقف الفرنسي المدافع عن "إنجازات" الثورة الفرنسية وقيمها العلمانية على أهمية "الفصل القاطع" بين الدين ومؤسسات الدولة حتى يتم "تحييد" العامل الديني كلياً، وهو ما عبر عنه لاحقاً القانون الذي سُن لحظر كل "الرموز الدينية" في الأماكن العامة في فرنسا. الدستور الأوروبي الذي أقراه المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي والذي يتم الآن اجراء استفتاء بشأنه في بعض دول الإتحاد الأوروبي لا يحتوي على هذه الإشارة، وهو ما يمكن اعتباره "نصراً" لأنصار العلمانية بمفهومها الفرنسي الصارم.
العلمانية لا تعني العداء للدين
مفهوم دولة القانون العلمانية القائمة على دستور ديمقراطي يحترم الكرامة الإنسانية لا يهدف إلى معاداة الأديان ولا يعبر عن إنكار لوحدة الخالق، كما يعتفد الكثيرون، بل إنه يمثل منظومة مبادئ أساسية تهدف الى التعاطي العقلاني والعملي مع هذه الإشكالية الحيوية. وعلى الرغم من حقيقة أنه تم تطبيق هذه الأنظمة الدستورية العلمانية تاريخيا في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية إلا أنها ليست قاصرة على الحضارة الغربية فقط، لأن ترسيخ الحقوق الأساسية للإنسان مكسب تنويري نتج عن صراع تاريخي طويل مع أنظمة الحكم الثيوقراطية.
الفصل بين الدين والدولة من منظور تاريخي
بدأت محاولات تنظيم العلاقة الشائكة بين الدين والدولة في أوروبا بـ "صلح فيسفاليا" الذي اوقف الحروب الدينية قي أوروبا في عام 1648، ثم تطور هذا المشروع ليضع في ما بعد أسساً وقواعد لفصل الكنيسة عن الدولة. التعريف الأدق لمفهوم العلمانية قدمه جون هوليوك بقوله:"العلمانية هي الاعتقاد الراسخ بالقدرة على اصلاح حال الانسان عن طريق استخدام مادي لعقلانيته دون العداء للدين". ما يتضح من هذا التعريف هو أن العلمانية ليست أداة للتدخل في شؤون البشر الخاصة، بل كانت تعني بداية تحويل أموال وممتلكات الكنيسة إلى ملكية عامة، و هي تعني الآن ببساطة فصل الدين عن الأمور السياسية "لأنسنة" عملية اتخاذ القرار السياسي، أي تحويل العملية السياسية إلى عملية سلمية جدلية بين البشر دون الإدعاء باحتكار الحقيقة والاستناد الى مرجعية ألوهية عليا.
الدين والدولة في ألمانيا
تشكل ألمانيا مثالاً وسطياً للعلاقة المثيرة للجدل بين الدين والدولة. الدستور الألماني المعادي للفاشية والقائم علي ضمان الحرية والديمقراطية يتعاطى بصورة متوازنة مع دور الديانة المسيحية كمرجعية قيمية وأخلاقية، إلا انه يرفض التدخل المباشر للمؤسسات الدينية في العملية السياسية الألمانية. تأثير الدين غير المباشرعلى السياسة الألمانية يمر عبر الدور الذي يلعبه الدين في عملية اتخاذ القرار السياسي. فممثلو الكنائس على سبيل المثال يحاولون من داخل المنظومة الحزبية اقناع الأحزاب القريبة منهم فكرياً وسياسياً بتبني تصوارتهم، لأن الدستور الألماني يضمن للاحزاب السياسية الأولوية العليا في "صياغة إرادة الشعب". كما أنه يمكن للقوى الدينية كونها جزءاً من قوى المجتمع المدني التأثير على الرأي العام ودفعه إلى تأييد موقف معين مما يضمن لهذه القوى تأثيراً فاعلاً على العملية السياسية الديمقراطية.
الفصل بين الدين والدولة مكسب حضاري
إن أكثر ما يهدد العلمانية كمكسب حضاري هو تحويلها إلى عقيدة سلطوية أو أيدولوجية فوقية لمحاربة الدين. فالدولة العلمانية الحديثة لا تمثل شراً لا بد من قبوله بحكم تفوق الأغلبية، بل نظام تم الإتفاق عليه لحماية التعددية الدينية والدنوية. لذلك لا يوجد تحقيق كامل لحرية العقيدة الدينية خارج نظام دولة القانون العلمانية. وهو ما يعود قطعاً إلى المنظومة السياسية الديمقراطية الحديثة القائمة على الفصل بين السلطات لخلق توازن مؤسساتي يمثل درعاً واقاياً من كل النزعات الشمولية، الدينية منها والدنيوية على حد سواء، التي تسعى إلى تقييد حريات الإنسان الأساسية.
لؤي المدهون