التعددية الثقافية في فرنسا على المحك
في عام 1998 اتجهت أنظار العالم إلى فرنسا ليشاهد كيف نجحت في تجسيد اندماج مهاجريها وقدمت منتخبا وطنيا لكرة القدم يزخر بنجوم من خلفيات اجتماعية وعرقية مختلفة، أمثال زيدان، فيرا، تريزيجي، دجوركاييف، ديزيه، دوجاريه .... الخ. ورأى العالم كيف يتألق الفريق الفرنسي المتنوع ويهزم المنتخب البرازيلي العريق ليفوز بأرفع لقب كروي وهو لقب بطل العالم. وأصبح الفريق الفرنسي رمزا لنجاح فكرة التعدد الثقافي وتجسيدا للطريقة الفرنسية في صهر المهاجرين مهما اختلفت مشاربهم في بوتقة الجمهورية، فيصبح الجميع مواطنين فرنسيين يحملون الهوية الفرنسية وينطبق عليهم القانون الفرنسي.
واليوم في عام 2005 تتجه أنظار العالم مرة أخرى إلى باريس ولكن هذه المرة ليشاهد كيف يتمزق النسيج الاجتماعي الفرنسي، وينتفض المهاجرون المهمشون لتشتعل أسوأ موجة شغب تشهدها فرنسا منذ عقود. ماذا حدث؟ ولماذا تبخر حلم التعدد الثقافي؟ أم أن فريق الأحلام لم يكن يعكس الواقع؟. لقد بدأت الأحداث في ضاحية كليشي سو بوا الباريسية حيث سقط شابان أثناء مطاردة الشرطة لهم وفقا لرواية أقارب الضحايا، فاندلعت مصادمات عنيفة بين شباب المهاجرين، ومعظمهم من شمال وغرب إفريقيا، وقوات الشرطة احتجاجا على الأوضاع المزرية التي يعيشون فيها والتمييز العنصري داخل المجتمع الفرنسي. أدت هذه الصدامات حتى الآن إلى إحراق 900 سيارة واعتقال 250 شخص إضافة إلى أعمال نهب وسلب واسعة النطاق.
لا يوجد حل سحري
الكاتب اللبناني المعروف أمين معلوف والمقيم في باريس منذ أكثر من ثلاثة عقود يهتم كثيرا في رواياته بالعلاقة المعقدة بين المشرق والمغرب. ويرى معلوف أن هذه التوترات العرقية لم يتم حلها حتى الآن بشكل جذري، لذلك تبقى كالجمر المستعر تحت الرماد. ويقول: "اليوم تتحدث كل فرنسا عن هؤلاء الشباب الذين يحرقون السيارات والممتلكات ويشتبكون مع رجال الشرطة. وبعد أن تهدأ الأحداث سيتوقف الحديث عن المشاكل التي أدت إلى هذه المصادمات وينسى الجميع ما حدث، لتبدأ موجة جديدة من التوترات." ويضيف الكاتب في لقاء معه مع إذاعة دويتشه فيله: "الجميع يعتقدون بأن الزمن كفيل بعلاج كافة المشكلات، وأن شباب الضواحي سيصبحون فرنسيين حقيقيين يوما ما. لكن ذلك لا يحدث، ما نحتاجه حقا هو مواجهة عقلانية للمشكلة دون تغليب للمصالح السياسية".
ورغم لغة الحديث المشتركة، والتي تجمع بين كافة الفئات والأقليات في فرنسا، تظل الهوة التي تفصلهم كبيرة، وخاصة الأقلية العربية المسلمة. ويعلق معلوف قائلا: "نلمح على الصعيد الدولي شقاقا واسعا بين العرب والغرب. ومن وجهة نظري فإن الهوة التي تفصل المشرق عن المغرب اليوم هي أعمق من تلك التي كانت تفصل بينهما قبل 20 أو 30 عاما." ويضيف: "إن العرب المسلمين في فرنسا يواجهون أزمة عصيبة في هويتهم. فهم يشعرون أنهم ينتمون إلى أوطانهم الأصلية، إضافة إلى انتمائهم إلى البلد الذي هاجروا إليه أي فرنسا. ونظرا للفروقات الشاسعة بين العالمين يشعر الشباب العربي في فرنسا بالتمزق الحاد. ولا أحد يهتم بكيفية معالجة هذا التمزق، بل لا أحد ينظر إليه بجدية".
قدر الجيتوهات
يرى كثير من المعلقين أن الوقت لا يسير في مصلحة الإدارة الفرنسية، فالفشل في تقديم استراتيجية واضحة لضم شباب المهاجرين في فرنسا إلى المجتمع قد يدفع الشباب إلى الانزلاق إلى التطرف الديني، خاصة وسط التطورات التي يشهدها العالم حاليا. لكن ما هي أسباب هذا الفشل؟ يقول معلوف: "من الخطأ مثلا وضع كافة الأطفال القادمين من أسر مهاجرة في مدرسة واحدة، وإن من السذاجة أن نقول لهم بعد ذلك أن العدالة تسود في فرنسا". والوضع في المدارس يشبه الوضع في السكن، فمن أجل إبقاء أحياء المدينة نظيفة ونضرة تم تجميع المهاجرين في أماكن سكنية تشبه الجيتوهات المنعزلة في ضواحي المدن. ويضيف معلوف: "نحن نقول للتلاميذ في المدارس انتم جميعا فرنسيون، لكنهم يشعرون أنهم معزولون عن المجتمع الفرنسي وبالتالي ينكفئون على هويتهم وجماعتهم الأصلية".
أما فريق الأحلام الذي فاز بكأس العالم فيبدو أنه الاستثناء وليس القاعدة، فالكاتب معلوف يرى أن فرنسا من إحدى الدول التي يصعب على المهاجرين فيها إثبات كفاءتهم وارتقاء سلم النجاح، باستثناء مجال واحد وهو الرياضة، ويقول معلوف: "لقد دأب الفرنسيون على السخرية من شخصيات ناجحة يتم تقديمها على أنها "شاهد إثبات" مثل اللاعب البرازيلي بيليه، فرغم نجاحه الشخصي يقبع باقي السود في وطنه تحت وطأة ظروف حياتية شديدة الصعوبة. لكن في الحقيقة يبدو لي أننا نعاني من نفس الوضع، ولا أحد يرى عمق الهوة التي تفصلنا عن بعض".
هل من الممكن اشتعال توترات شبيهة في ألمانيا؟
يبدي كثير من المتخصصين تشككهم من إمكانية وقوع ذلك. فالسياسة الألمانية حيال المهاجرين تختلف عن الفرنسية، فقوانين الحصول على الجنسية الألمانية تعد أعقد نسبيا من دول أخرى، كما أن ألمانيا لا تتعمد إزالة الفوارق بين ثقافات الأقليات وعاداتهم لتصهرهم في فكرة الجمهورية كما تفعل باريس، بل تسعى السياسة الألمانية إلى الحفاظ على السمات العامة لكل أقلية. جدير بالذكر أن ألمانيا تحتضن ثاني أكبر تجمع إسلامي في أوروبا بعد فرنسا، ويقدر بـ 3.7 مليون شخص، منهم مليوني تركي.
رود كوبمانس الباحث السابق في معهد الأبحاث الاجتماعية ببرلين يقول: "معظم المهاجرين في ألمانيا يشعرون أنهم ضيوف. فالأتراك مثلا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أتراك. فقط عندما يبدأون النظر إلى أنفسهم على أنهم مواطنون عندها سيبدأون التعبير عن مطالبهم لتحسين وضعهم في مجتمعهم". ويضيف: "العنف في أوساط المهاجرين في ألمانيا قد يفوق مثيله في فرنسا، لكن الفارق أن الصراعات في ألمانيا تتعلق بالأوطان الأصلية التي قدم منها المهاجرون، مثل الصراع بين الأتراك والأكراد، أو الصرب والألبان. بخلاف فرنسا التي يندر أن تندلع شرارة صراع بين المهاجرين على خلفية أزمة في بلاد أخرى". غير أن الباحث يتنبأ بأن الوضع سيتغير عندما يزداد عدد المهاجرين الذين يشعرون أنهم مواطنون.
باحثون آخرون يختلفون مع الرأي السابق، ويرون أن من المستبعد حدوث توترات شبيهة بتلك التي حدثت في فرنسا. والسبب أن المهاجرين في ألمانيا لا يعيشون في جيتوهات ضيقة على أطراف المدن. وذلك كما يرى كلاوس باده مدير معهد دراسات الهجرة والدراسات الثقافية في جامعة أوزنابروك. ويضيف "بالطبع هناك أحياء يتركز فيها المهاجرون مثل كرويتزبرج أو نوي كولن في برلين وتظهر فيها مشكلات لكنها لا تقارن بالوضع في الجيتوهات ". لكنه أضاف أن على ألمانيا أن تستثمر المزيد في دعم عملية الاندماج، عن طريق إتاحة الفرصة للمهاجرين لتعلم اللغة حتى قبل وصولهم إلى البلاد، ورعاية الأفراد الذين فشلوا في العثور على فرص عمل. ويقول: "ربما تثقل هذه الخطوات ميزانية الدولة، لكننا إذا لم ندفع الآن، سوف ندفع أضعافا مضاعفة على المدى البعيد".
هيثم عبد العظيم