مهاجرة سورية: طريقتي في غسل الصحون تهدر المياه
٢٣ مايو ٢٠١٦مراقبته موجعة وسماعه موجع. موسيقى حزينة مرافقة للوحة فنية. هكذا بدا لي المطر في ذلك اليوم لحضوره السخيّ هنا، وتقتيره هناك.
كنت في المطبخ أغسل الأطباق، على وشك أن أغرق في سلسلة أفكاري الحزينة تلك، عندما دخلت زميلتي في السكن، وكادت تغرقني مع أطباقي بصوتها المعاتب المتفاجئ. نظرتُ حولي ظناً مني أنني قد كسرت شيئاً ما أو استعملت أدواتها الخاصة بشكل خاطئ. حين سارعت بالاقتراب نحوي وأغلقت صنبور المياه المتدفق. وهي تسألني باستغراب ماذا تفعلين؟؟ فضحكت لسؤالها ولم أجبها.
اعتذرت محاولةً توضيح ردة فعلها الغريبة. قالت إن طريقتي في غسل الصحون تهدر الكثير من المياه، ومن الأفضل أن أجمع الأواني كلها، ومن ثم أضعها في الحوض مع كمية قليلة من الماء ومادة التنظيف أو في آلة غسل الصحون للتوفير. بدت علامات التعجب واضحة على ملامحي، وكأنني أخبرتها دون أن أنطق بحرف، كم هذا قذر! تجاهلت إيحاءاتي وأكملت بحزم أن الفواتير في ألمانيا مرتفعة. إذ تكون فواتير: صرف وتصريف.
كانت تلك مقدمة لمحاضرتها عن مصائب الشرق الأوسط بما فيها شح المياه مروراً بمستقبل الكوكب بلا موارد مائية كافية، ووصولاً إلى التقنيات الحديثة المستخدمة في ألمانيا لتجنب الكارثة. رغم أهمية الموضوع، إلا أنني تمنيت لو انتهت القصة عند إغلاق الصنبور، خصوصاً أنني لم أسمع كلمة واحدة مما نطقَتْه. لا حاجة لي لآلة الزمن واختراق المستقبل لأعلم وأشعر تماماً ما تعنيه قلة المياه. أن تكون سوريّاً يعني أن تعيش هذه التجربة المستقبلية. ربما تحتّم علينا أن نكون سباقين بخوض التجارب المستقبلية المرتبطة بالأزمات والمآسي.
سمعتها تقول، سوريا، فاسترجعتني لمتابعة حديثها. وإذ بها تحدثني عن زيارتها لسوريا منذ سنوات عدة. أخبرتني كم أحبتها، وبأنها لم تشعر بأزمة المياه لوجودها كسائحة. غير أنها قد لاحظت قلة الجمال الأخضر الذي تفتقره تلك البلاد مقارنة بألمانيا. أفهمها تماماً، فلجمال اندماجات ألوان الطبيعة هنا بُعد موسيقي يحاكي سيموفونيات بيتهوفن.
لكن ما أثار فضولي بحق واستخرج الأسئلة من أفكاري كالنيازك المتلاحقة هو التزامها الإنساني بتحقيق تغيير بسيط بدءا من نفسها. كالعديد ممن قابلتهم من الألمان. هل هذا الالتزام نابع حقاً من حرصهم والشعور بالآخر؟ أم لسبب اقتصادي متعلق بارتفاع الفواتير ليس إلا؟ بأي حال، أياً كان السبب، فالنتيجة لصالح البلد وتقدمه.
أما نحن، فلن نتطور إلا عندما نتوقف عن الشكوى ونبدأ بالتفكير. نشتكي ونندب شح المياه من جهة، وعند تواجدها يصبح هدرها من شِيَم الكرماء وأصول الضيافة، بل وكأننا ننتقم بإسرافنا من غيابها الطويل. نظرت إلى زميلتي محاولة إخفاء ابتسامة خبيثة بينما أفكر.. يا مسكينة لن أخبرك كيف نقوم بتنظيف منازلنا (بالشطف)، وكيف يتحول المنزل إلى مسبح. وإلا ستصابين بسكتة قلبية حتماً.. أنتم توفرون مياه الأمطار للتنظيف، ونحن نُمطر أنفسنا وعوداً بحسن التصرف، ونغسل الطرقات باستهتارنا.
يُبهرني إحساس أفرادهم بالمسؤولية كما تُبهرني تلك البحيرات بكثرتها وبخصوصية تفاصيلها.
ما يصل بين حلمنا وواقعنا هي الإرادة والسعي وإغلاق صنبور الكلام الفارغ. أن نبدأ العمل معاً بعيداً عن لوم الإدارات الفاسدة التي تبدأ مشاريعها الملحمية بحل أزمة المياه عند التمويل فقط، وبعد ذلك يُنسى الملف على أحد الرفوف المتسخة في مستودع ما.
أنظر إلى ألمانيا.. بلدٌ يعيش بنعيم المياه من الأرض حتى السماء.. الأنهار والبحيرات والأمطار الغزيرة، إلا أن الحرص وحملات التوعية مستمرة. وهنا يكمن الاختلاف والسبب لكون البلدان المتقدمة متقدمة فعلا، ولكون البلدان النامية.. نائمة.
نحن حقاً، نعيش على بُعد عالمين من هنا. كان حرياً بهم أن يطلقوا عليه اسم العالم البائس لا الثالث.
صمت..
يبدو أنها انتهت. نظرتُ من النافذة لأسرق نظرة على الخير المنهمر مع المطر.. إنه الخير فعلاً كما يقول عنه كبارنا. كم أحبه.. وكم أشتاق لرؤيته هناك.