"مريم" صبري سليفاني ومعاناة المرأة الكردية
٣ أغسطس ٢٠١٣يحرص الروائيّ الكردي صبري سليفاني على أن ينقل في روايته "مريم امرأة من زمن آخر" معاناة المرأة في كردستان العراق، ولاسيما أن الإقليم شهد في السنوات الأخيرة حالات انتحار كثيرة من قبل النساء، مما يشي بحجم الغبن الجاثم على صدور النساء في مجتمع يزعم المحافظة على القيم والتقاليد، وتدفع فيه المرأة ضريبة أفعال الرجل وجرائمه بحقّها وحقّ المجتمع.
برغم أن سليفاني يختار نسبة بطلته مريم إلى زمن آخر، في روايته التي أصدرتها مؤخرا الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة بترجمة سامي الحاج، فإنه يستهل الفصل الأول بتحديد زماني هو الأول من يوليو/تموز، وتكون مدينة "دهوك" التي تقع في كردستان العراق الحاضنة المكانية ومسرح الأحداث التي تطبعها بطابع مختلف لا يخلو من الغرابة والإيلام.
عار الآخرين
مريم هي الراوية الكلية العلم، وهي من زمننا الحاضر، وما الآخر إلا اللحظة المَعيشة، تراها تخاطب امرأة أخرى اسمها "نارين"، تناجيها وتواسي نفسها أثناء مناجيَاتها لها ومعها، و"نارين" كردية مثلها لكنها تعيش في أوروبا، بينما مريم تعيش في دهوك التي تذوق فيها مرارات كثيرة على أيدي أقاربها ومَن يفترض فيهم حمايتها.
تنتقل مريم من قهر إلى آخر، تكتشف حقائق الحياة وتتراكم لديها الخبرة بعد تجارب مؤلمة توشك أن تقضي عليها كل مرة، لكنها تستعيد بعض القوة لتتمكن من الاستمرار ولا تلجأ إلى الانتحار لتخفي بشاعة ما مورس بحقّها، بل تفضل البقاء شاهرة عار الآخرين في وجوههم وكاشفة الغطاء عن الجرائم التي تسجل ضد مجهولين.
مريم فنّانة تشكيلية، تبلغ السادسة والثلاثين من عمرها، تقاسي عسف المحيطين بها، تفقد أمها وهي طفلة، فيتزوج والدها امرأة لعوبا اسمها "منجول"، ويموت بعد زواجه ذلك بمدة قصيرة فيتركها بين براثن "منجول" وعشيقها "محمد ميرى" الذي ينتهك براءتها ويغتصب بسمتها ويعكر حياتها ويسمم مستقبلها.
وبالتواطؤ مع "منجول" وصمت متخاذل من قبل زوجته، يرهنها محمد ميرى لنزواته المرضية. وتفجع مريم باكتشافها حملها، ويكون ذلك إيذانا باقتراب النهاية، لكن ذلك الحمل لا يكتمل إذ تجهض في ظروف قاسية، فتتحول بدورها إلى امرأة قاسية، تحيط نفسها بجدران مصطنعة من القسوة كي تتمكن من مواجهة القسوة التي تُعامَل بها.
بعد ذلك تتعرف إلى أصناف أخرى من الرجال، "هزار" الثوري، "إسلام" الشيوعي، "هاوار" الإسلامي، "كرمانج "المصوّر. ويكون كل واحد من أولئك الرجال غارقا في مستنقع بعينه.
ترى أحدهم يرفع ستارة الثورة فيغدو تاجر سلاح وثري حرب. وتجد الآخر يعيش نكبة سقوط الإمبراطورية التي ضحى سنوات من عمره وهو يدافع عنها، ثم آخر يتخذ الدين واجهة وستارة ليخفي علله. وحين تعتقد أنها تعرفت إلى رجل يستحق أنوثتها وجمالها وحبّها تصدَم بأنه فقد رجولته في اقتتال الإخوة الأعداء الذي شهده الإقليم الذي دام من 1994 إلى 1998.
مكابدة الحياة
تقرّ مريم بأنها مجروحة في حرب الوجود والعدم، وأنها تكابد للحياة في واقع مميت، وتتألم كيف أن حروبا كثيرة انتهت، لكن حربها مع مخلفات التراث البالي لا تزال مستمرة.
تكون لوحاتها مسكونة ببشر متربصين بها وبأنوثتها، وثعابين تلدغها وشروخ لا تستدلّ إلى التئام وشواهد قبور متناسلة وأدخنة قطارات تشكل غيوما حاجبة تمطر أحقادا متعاظمة. وفي حين أنها ترسم لوحاتها بمختلف الألوان تظلّ حياتها عبارة عن لوحة بلون أسود قاتم، تتخلله تدرجات الأبيض الذي لا يغير شيئا فيها بقدر ما يزيدها قتامة وأسى.
لا تتحدث البطلة عن امرأة بعينها فقط، وإن كانت بمسيرتها وحكايتها المأساوية تختصر حكايات "مريمات" كثيرات ممن لا يملكن جرأة البوح والمكاشفة، ولاسيما في ظل مجتمع فحولي ينظر إلى المرأة كسلعة أو كوسيلة للمتعة، ويكون التعامل بفظاعة ووحشية مع أية محاولة للخروج من طوق الانحياز للرجل، مهما تعاظمت علله وخطاياه. ولا تكون معاناتها فرديّة أو حالة بقدر ما تعكس ظاهرة يتمّ غضّ الطرف عنها وتأجيل البتّ في معالجة آثارها المدمّرة.
يعكس سليفاني في روايته مظاهر من تواطؤ المرأة على بنات جنسها، ومشاهد من خذلانها في مواجهة الظلم الواقع على غيرها من النسوة، في تمسّك بائس من قبلها بالرجل المتسلط، لأن عدم وقوفها إلى صفه قد يعني لها التشرد أو القتل تحت أية حجة، وذلك دون أن يتم تجريم القاتل أو محاكمته، لأنه سيسوّر الجريمة بحجج الشرف ويبدد بذلك أية محاولة للمساءلة والمحاكمة.
يحتفي سيلفاني بالوجع والغربة والخوف، يسرد حياة مشحونة بالمرارة والفجيعة، تحمل في طيّاتها بذرة تغيير مأمول بناء على إرادة قوية. تكون مريم البوّاحة بالأسى شرارة التغيير ونارين المصغية مشكلة معها قطبي المعادلة التي تسعى لوضع أساس للتغيير، فإحداهما تنشد الهرب إلى الغرب والأخرى تعود من الغرب. وتظل المرأة مغتربة عن واقعها، حاملة غربتها معها في حلها وترحالها.
ربما يمكن توصيف الرواية على أنها مرافعة رجالية عن حقوق المرأة المغتالة وحياتها المهدورة، ينقل سليفاني بنقمة وغضب، رسالة فحواها أنه لابد من بناء الإنسان قبل الشروع في بناء الأوطان، وأن المجتمع الذي يعطل حياة نسائه ويدفع بهن إلى هاوية اليأس والاغتراب والانتحار سيظل بدائيا قاصرا معتلّا، ولن يتمكن من تحقيق التطور المنشود. ويصور كيف أن الخوف الذي يغتال البشر يبقيهم هياكل جوفاء في مجتمع مفكك.
المصدر موقع الجزيرة نت