علاء الأسواني: هل ينفصل الأدب عن معركة الحرية..؟!
٢٩ نوفمبر ٢٠١٦في شتاء عام 2010، قبيل الثورة المصرية. قابلت بالصدفة أحد أشهر الروائيين المصريين ..أثنى على أعمالي الأدبية فشكرته ثم قال:
ــ أنصحك بالتركيز في الأدب والبعد عن السياسة لأنها مضيعة للوقت والجهد.
قلت له:
ــ السياسة مصطلح لايستعمل الا في النظام الديمقراطي حيث يجتهد رجال السياسة حتى يفوزوا في الانتخابات ويصلوا إلى السلطة. الوضع في مصر مختلف. هناك نظام فاسد ينهب المصريين ويقمعهم وأنا أشارك الناس في معركتهم من أجل الحرية.
ابتسم الروائي الشهير وكأنه يشفق علي من سذاجتى وقال:
ــــ لن يحدث أي تغيير في مصر. المصريون يعشقون الفرعون وهم الشعب الوحيد الذى مارس عبادة الحاكم. لو أسقطتم مبارك سيبحث المصريون عن طاغية آخر لأنهم لايستطيعون العيش الا في ظل ديكتاتور.
استفزني رأيه بشدة وقدمت له أدلة عديدة من تاريخ مصر على أن المصريين - مثل كل شعوب الأرض - لم يتوقف نضالهم من أجل الحرية يوما واحدا. احتدم بيننا النقاش وذكرته بمقالاته المشينة التى كتبها في نفاق مبارك فقال بوقاحة:
ـــ لاتحاسبني على مقالات كتبتها في ظروف معينة. أنا مسؤول فقط عن رواياتي.
كثيرا ما أتذكر حواري مع هذا الروائي لأن ما قاله يشكل نموذجا يتبعه أدباء مصريون وعرب كثيرون في التعامل مع السلطة. في الدنيا كلها يدافع الادباء عن العدل والحرية ويدفعون ثمنا باهظا لمواقفهم. هكذا فعل ارنست همنغواي وجورج برنارد شو و وول سونيكا وجون بول سارتر الذى أيد المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي وكان يوزع بنفسه منشورات الطلبة عام 1968في شوارع باريس وقد جاوز الستين و غابرييل غارثيا ماركيز الذى أصدر بيانا ووقع عليه وحده لادانة الاعتداءات الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني. هكذا يفعل الأدباء في العالم كله أما عندنا في العالم العربي فان أدباء كثيرين يتجاهلون القمع الواقع على مواطنيهم ويندفعون إلى نفاق الديكتاتور حتى ينعموا برضاه ويغرقهم في الامتيازات والعطايا، وبين الحين والآخر ينتقي الأديب المنافق معركة ثقافية لا تغضب السلطة فيصنع حولها ضجيجا كبيرا وكأنه يناضل بجد.
لدينا أدباء يسكتون على الظلم ولا يغضبهم تزوير الانتخابات ولا التعذيب ولا اعتقال آلاف الابرياء، لكنهم اذا منعت قصيدة من النشر في مجلة مجهولة نظموا وقفات احتجاجية ودبجوا بيانات غاضبة دفاعا عن حرية التعبير. الدفاع عن حرية التعبير واجب بالطبع لكن من يدافع عنها ويسكت عن انتهاك انسانية شعب بأسره يكون منافقا.
منذ أعوام أنشأ العقيد معمر القذافي جائزة أدبية بمبلغ كبير من أجل تحسين صورته في العالم وعرض الجائزة على أكثر من أديب عالمي فرفضوا جميعا وأعلنوا أن مبادئهم لاتسمح بالحصول على أموال من ديكتاتور قاتل، في النهاية عرضوا الجائزة على ناقد مصري فقبلها شاكرا سعيدا وسافر لاستلامها مع بعض الأدباء المصريين الذين تباروا في مديح القذافي.
لماذا يعيش كثير من الأدباء المصريين راضين في كنف الاستبداد: هناك من يرى أن هذا السلوك يعود إلى القرن التاسع عشر عندما أرسل حاكم مصر محمد علي المبعوثين إلى أوروبا وعندما عادوا منحهم مناصب في الدولة فنشأت عندئذ الرابطة القوية بين المثقفين والسلطة. هناك رأي آخر يعزو تملق كثير من الأدباء للحاكم إلى التقليد العربي القديم حين كان شعراء البلاط يتبارون في مديح الملك العربي مقابل العطايا التى يغدقها عليهم.
أيا كان السبب فالواقع ان لدينا أدباء كثيرين ينافقون الديكتاتور ويبررون ظلمه ثم يطلبون منا أن نحاسبهم فقط على أعمالهم الادبية وليس مواقفهم السياسية..هذه مغالطة كبرى:
أولا لأن الدفاع عن حقوق الناس وكرامتهم ليس عملا سياسيا وانما واجب انساني وثانيا لأن الأدب ليس مجرد حرفة وانما رسالة. من المفهوم أن يقول النجار أو المهندس: "سأزاول حرفتي ولا شأن لي بما يحدث في بلادي"، لكن الأديب لايمكن أن يتجاهل المظالم التى تقع على مواطنيه لأن الكتابة في جوهرها دفاع عن الحرية والحق والعدل. الكتابة شكل ومضمون. الشكل يمكن لأي شخص أن يتعلمه أما المضمون فلا يتحقق الا بالموهبة التي ينشأ عنها ضمير نقي فائق الحساسية يتأثر بشدة من أقل انتهاك للانسانية. اذا فسد ضمير الكاتب لن يكون قادرا الا على انتاج الشكل فارغا من المضمون.. نحن نكتب أساسا دفاعا عن حقوق الانسان وكرامته فما معنى ان يشارك الأديب في تدعيم الطاغية ويسكت عن الظلم والقمع ثم يكتب رواية. ماذا سيقول في هذه الرواية ومن سيصدقه.؟!
الأديب الموهوب يمتلك عادة نفسا نقية نظيفة تتأثر من القبح والظلم فينفعل فورا ويبدع دفاعا عن المعاني الانسانية، فاذا اصبح الأديب مشاركا في القبح والظلم فلن يكون لديه ما يكتبه. اذا تلوث الأديب بالنفاق فان روح الفن تهرب منه فلا يتبقى له عندئذ الا الصنعة. هناك أسماء كثيرة في الأدب العربي بدأت الكتابة وهي مخلصة في الدفاع عن الحرية فلما فسدت وباعت أقلامها للديكتاتور لم تعد تنتج الا أعمالا أنيقة مزخرفة لكنها ميتة بلاروح. لعلنا نذكر كيف عاش عميد الرواية العربية نجيب محفوظ في خضم الدولة البوليسية الناصرية، لم يعلن معارضته للنظام لكنه أيضا لم يكتب حرفا في نفاق الديكتاتور بل وأصدر روايات تنتقد النظام مثل ميرامار وثرثرة فوق النيل.ان واجب الأديب الدفاع عن حقوق الناس وليس تدعيم السلطة القمعية واذا تخلى عن هذا الواجب سيفقد احترامه وفنه معا..
الديمقراطية هي الحل