تونس:ربيع الكتاب تنغِصه ألوان جديدة من الرقابة والكتب الصفراء
١٨ نوفمبر ٢٠١٢تجولت DW عربية في معرض الكتاب في تونس. كان كل شيء يوحي بأن الكتاب يحظى بمكانة جديدة بعد الثورة، غير أن الحضور اللافت للكتاب الديني أعاد إلى الأذهان صور الرقابة في العهد السابق، كما طرح مفهوم الرقابة في زمن الثورة، وهل غابت لتعود من شباك الكتب "المعادية للثورة"؟
يرى العديد من المتابعين للشأن الثقافي أن إقبال التونسيين على شراء الكتب الدينية والسياسية يعود بالأساس إلى عدم توفرها خلال حكم زين العابدين بن علي الذي منع نشرها وبيعها وشراءها ومطالعتها بشتى الطرق. ويقول الكاتب التونسي محمد الجابلي في افتتاحية نشرية معرض تونس للكتاب "كنا نحصي الكتب الممنوعة في كل عام فأصبحنا نعد تلك الظاهرة من تراث الماضي بل نحتفي ونكرم من طالهم المنع والإقصاء والتهميش... ".
وقد أكد وزير الثقافة التونسي المهدي مبروك، خلال تصريحات صحفية أن هذه الدورة لمعرض الكتاب في تونس والتي نظمت لأول مرّة بعد الثورة، شهدت اختفاء مقصّ الرقابة على عرض وتوزيع الكتب بشكل كليّ. وقال وزير الثقافة إن المعارض التونسية "كانت ضحية للمقص، وفي هذه الدورة لم يتم التحفظ على أي عنوان»، مشيرا إلى أنّ مهمة اختيار الكتب تمّ تركها للمهنيين من اتحاد الناشرين والهيئات التي تمثل المبدعين.
"الانفلات الكتبي"
ويتحدث النقاد في تونس أن البلد عاش خلال معرض الكتاب «انفلاتا كتبيا» طغت عليه الكتب "الصفراء" وكتب "السلفية" بجميع مشاربها وتوجهاتها. وتوافدت أعداد كبيرة من المنتمين إلى التيار السلفي إلى المعرض لاغتنام هذه الفرصة غير المسبوقة لشراء الكتب ذات المرجعيات السلفية التي لم يكن مسموحا بشرائها أو حتى بمطالعتها في عهد حكم بن علي.
وقد لوحظ اقبال عدد من التونسيين على شراء كتب ابن تيمية وابن القيم الجوزية وابن عثيمين وغيرهم. كما عرضت مختلف الكتب المتعلقة بالفكر الإسلامي لزعماء التيار الإسلامي بدءا من راشد الغنّوشي زعيم حركة النهضة التونسية وحسن الترابي ووصولا إلى حسن البنا مؤسس جماعة الاخوان المسلمين المصرية. كما توفرت كتب المعارضين التونسيين الصادرة قبل الثورة أو بعدها.
وقد عزى رواد جناح مؤسسة ابن عثيمين الخيرية الذين امتلأ بهم المكان والذين حاورناهم الإقبال الكبير على الكتب الدينية إلى أن كتب ابن عثيمين وابن باز وغيرهم من الشيوخ كانت ممنوعة في عهد بن علي، وقد سمحت وزارة الثقافة في تونس بدخول هذه الكتب بدون أدنى نوع من الرقابة واعتبروها "نعمة من نعم الثورة المباركة".
ويقول وديع بن مفتاح، من دار نقوش عربية، أن الفرق بين المعارض السابقة وهذا المعرض، هو حضور مختلف الكتب السياسية التي كانت تنتقد النظام السابق وحضور الكتب الصادرة بعد الثورة وهي كثيرة. وإلى جانب ذلك حضرت الكتب الدينية ذات المرجعيات "الوهابية" بقوة بعد أن كانت ممنوعة لسنوات.
كتب ممنوعة تنشر بعد الثورة
وأمام هامش الحرية الكبير الذي يرى كثير من المثقفين أنه الانجاز الوحيد لثورة 14 يناير، ظهرت كتب جديدة تحتفي بالثورة أو تقدم تجارب إنسانية مختلفة من روايات أيام السجون إلى القراءات الذاتية للثورة. في أحد أروقة المعرض تحدثت DW عربية إلى الكاتب لطفي بن الكحلاء، الذي عرض روايته "لم اكن جاسوسا" والتي يقدمها الكاتب على أنها سيرة ذاتية في شكل رواية، تروي قصته الحقيقية في صراعه مع المخابرات الإيرانية والأمريكية والفرنسية والتونسية.
ويقول الكاتب "أن الحرب التي أعلنتها عليه قوى المخابرات بجبروتها وفتكها لم يفك شدتها إلا حدث 14 يناير 2011"، ويضيف "أنه لم يكن ليحلم بأن ينشر له كتاب وأن يقدمه بكل حرية لقرائه فقد كان مطاردا وممنوعا من الكتابة قبل الثورة. وقد شكل المعرض فرصة جيدة للقاء القرّاء والتحدث إليهم".
بينما رأى الناشر كارم الشريف في حديث لـ DW عربية "أن هذه أسوأ دورة وتتحمل إدارة المعرض مسؤوليتها كاملة في هذا الفشل، فهناك غياب تام للثورة بعد الثورة، فلا ندوات فكرية ولا تظاهرات ثقافية...". ويوضح كارم الشريف أنه "ليس هناك احتفاء بالكتب الجديدة الصادرة بعد الثورة على غرار أحباب الله لكمال الشارني... أو "برج الرومي" (سجن سيئ السمعة في تونس تم إغلاقه بعد الثورة) لسمير ساسي التي بلغت طبعتها الرابعة في ظرف أشهر وهو ما يحصل لأول مرة في تونس".
وحول الرواج الكبير للكتب الدينية في هذه الدورة يقول كارم "إنها دورة الكتاب السلفي بامتياز، أينما ترى زحام فذلك جناح يوزع كتبا سلفية وبأسعار رمزية في بعض الأحيان". في إشارة منه إلى وجود جهات تمول هذه الكتب لتشجيع توزيعها على أوسع نطاق.
مقص الرقابة ومحاولة العودة من باب "تحصين الثورة "
وأمام إقبال التونسيين على الكتب التي كانت ممنوعة لسنوات، طرحنا السؤال هل هناك منع لكتب معينة بعد الثورة؟ لم نجد جوابا صريحا. فالرقابة بمفهومها المتداول، تحاول العودة تحت غطاء تحصين الثورة، إذ يتعرض الكتّاب والمفكرون المحسوبين على النظام السابق أو الذين يخالفون الحكام الجدد وجهة النظر السياسية للتضييق وللاتهام بالعمالة ولم يعد غير مرغوب فيهم بوسائل الإعلام أو بالمعارض أو التظاهرات الثقافية. وحول هذا الموضوع يقول وديع بن مفتاح أن وزارة الثقافة حاولت منع توزيع كتاب "الوجه الخفي لثورة تونس" للكاتب المازري الحداد، ولكن تدخل اتحاد الناشرين سمح للكتاب بالوصول للقارئ قبل انعقاد المعرض.
ولكن يبدو أيضا أن الرقابة الذاتية بدأت تأخذ مكانها شيئا فشيئا. ففي جناح "عالم الكتاب"، حدثتنا إحدى العارضات بأنه خوفا من أن يتهم الموزع بالتبشير بالمسيحية عبر عرض كتاب بالفرنسية "إفهم الانجيل"، تم وضع الكتاب في أحد الأماكن البعيدة عن الأنظار ولم يقع تقديمه للعموم رغم بعض الطلب عليه.
ويؤكد نشطاء تونسيون ومثقفون أن "الحرية كل لا يتجزأ، وأنه لو قبلنا بأي استثناء تحت أي غطاء "تحصين الثورة" أو "حماية المقدسات"، فإننا نكون قد فتحنا بابا يمكن أن يشكل عودة جديدة للرقابة تحت مسميات جديدة".
وتعرضت مطبوعات أجنبية للمنع في تونس خلال الفترة التي أعقبت الثورة، وذلك بداعي "مسها بالمقدسات الدينية"، اذ يرصد المراقبون تزايدا للاعتبارات الدينية نتيجة نفوذ التيار الإسلامي بأطيافه السلفية والاخوانية وغيرها.