بورنوغرافيا الحرب.. حين يتجرد العالم من إنسانيته
١٨ أغسطس ٢٠١٤DW: السيد بانغرت، مَنْ يتصفَّح كتابك "بورنوغرافيا الحرب" يشاهد الحرب بصورتها الكاملة وبدون أية فلترة: نصف جثة لرجل مقطوعة الرأس وقد نهشتها الكلاب، طفل رضيع تُرك وحده في سلة بعد اقتحام أحد المنازل، جسد عارٍ تظهر عليه علامات تعذيب فوق قطعة قماش غارقة بالدماء. هل تعتقد أنَّ الصور المأخوذة من الحرب يجب أن تكون عنيفة إلى هذا الحدّ؟
كريستوف بانغرت: أجل، يجب أن تكون عنيفة إلى هذا الحدّ تمامًا مثل الحرب نفسها. فالحرب لا تمثِّل أي شيء مقدَّس، أو أي شيء غير عادي، لأنَّ البشر يتقاتلون ويخوضون الحروب منذ وجودهم. يجب علينا توثيق ذلك بدقة تامة مثل أي شيء آخر. وسواء قمنا بإنتاج شيء من ذلك - أو حتى لم نقم - فهذا شأننا نحن.
عندما أنظر إلى هذه الصور، أشعر بدافع يدفعني إلى النظر بعيدًا. أنت كمصوّر يتحتَّم عليك أن تنظر إلى هذه الأحداث هناك على أرض الواقع. ما مدى صعوبة ذلك بالنسبة لك؟
هذا صعب للغاية. يجب على المصوّر أن يتغلب على نفسه حتى يتمكّن من العمل في مثل هذه الظروف والحالات غير العادية، وحتى يكون مهنيًا في عمله. لكن هذا أيضًا أمر مهم للغاية، فأنا أسافر بطبيعة الحال إلى هذه المناطق لأنَّني مُكَلَّفٌ بمهمة تتمثَّل في التقاط هذه الصور. ويجب علي أن أنشرها أيضًا. ومع الأسف لا يتم في بعض الأحيان نشر الصور الفظيعة للغاية - ولهذا السبب فقد جاء هذا الكتاب.
الكثير من الصور الموجودة في كتابك لم يتم نشرها في أي مكان آخر، لأنَّها تُظهر مشاهد عنيفة للغاية. نحن لا نعرض أيضًا في هذا الحوار إلاَّ الصور "غير المؤذية كثيرًا". فهل تستطيع أن تفهم هذه الرقابة الذاتية، هذه الحماية من صور الوحشية والرعب؟
هذا رد فعل طبيعي جدًا. وفي الحقيقة يتم فرض الرقابة الذاتية على ثلاث مراحل: في البداية يفعل ذلك المصور. فأنا شخصيًا لا أرسل العديد من الصور إلى قسم التحرير. وفي المرحلة الثانية يقرّر المحرّرون ما الذي سنعرضه وما الذي لن نعرضه؟ وأمَّا المرحلة الثالثة - وهي في الواقع المرحلة الأجدر بالاهتمام - هي تلك التي نجتازها جميعنا: فنحن كمشاهدين لا نريد في كثير من الأحيان رؤية هذه الصور. فنتجنّبها ونبعد نظرنا عنها. ولا ننجح في التغلب على أنفسنا. ولذلك فإنَّ هذا الكتاب ليس مجرّد نقد لوسائل الإعلام وليس مجرّد نقد ذاتي، بل هو نقد لنا جميعنا كمشاهدين لهذه الصور. ومسؤوليتنا جميعنا هي أن نبحث بنشاط عن مثل هذه الصور وأن ننظر إليها، حتى وإن كان ذلك أمرًا صعبًا للغاية بالنسبة لنا.
لماذا يجب علينا أن ننظر إلى تلك الصور؟
يجب علينا أن ننظر إلى هذه الأشياء، لأنَّها حدثت بالفعل. نحن نتذكَّر في صور ثابتة - وليس في أصوات أو كتابة أو في أشرطة وأفلام. ولذلك فإنَّ الصورة تخلق أيضًا ذكريات لدى البشر. وإذا حذفنا الرعب والإرهاب من تغطيتنا الإعلامية، فعندئذ لن يتمكّن الناس من تذكّر هذا الجانب. وهنا يكمن الخطر. كذلك يعتبر السياق الذي تظهر فيه هذه الصور على نفس القدر من الأهمية: إذ لا يوجد أي معنى لنشر هذه الصور المرعبة على الصفحة الأولى من صحيفة شعبية، لجعل الناس ينصدمون ولرفع عدد النسخ المطبوعة منها. يجب علينا أيضًا أن نتجاوز الصدمة التي يصاب بها الجميع.
ماذا يعني هذا؟
كثيرًا ما نرى الصور التي تُظهر مأساة الحرب: دبابات متحرّكة وشبابًا يحملون بنادق الكلاشنيكوف. لقد شاهدنا ذلك آلاف المرات من قبل. ولكن من السهل نسبيًا مشاهدة هذه الصور. نحن لا نرى في الواقع رعب الحرب الحقيقي. وهذا جنون بحدّ ذاته! ولذلك فإنَّ من واجبنا إيجاد سياق، طريقة يمكن من خلالها عرض هذه الصور. وأنا حاولت فعل ذلك من خلال كتابي هذا.
لكن أَلا تعتقد أنَّ هذه الصور سوف تصبح عادية بالنسبة لنا عندما نرى مشاهد أكثر عنفًا ووحشية من ذي قبل؟
لا أعتقد أنَّنا سنعتاد عليها. فهذه أمور فظيعة للغاية - تمسّنا وتؤثّر بنا جميعنا. لا يمكن التعوّد عليها. لنفكِّر في صور تحرير معسكر أوشفيتز النازي. هذا أمر فظيع وسيئ للغاية. وإذا كنا سوف نعتاد على مثل هذه الصور، فعندئذ سوف نكون وبكلّ تأكيد قد فقدنا إنسانيتنا. لا يتعيَّن علينا مشاهدة هذه الصور في كلّ يوم، لكن يجب علينا أن نراها أيضًا. بيد أنَّنا لا نفعل ذلك لأنَّه أمر صعب علينا، ولأنَّنا نفرض على أنفسنا الرقابة باستمرار.
أَلا تعتقد أنَّك تُشبع من خلال هذا الكتاب في المقام الأوَّل احتياجات البعض للتلصص والمشاهدة؟ فاسمه في آخر المطاف أيضًا هو "بورنوغرافيا الحرب" - وهو مستلهم أيضًا من كون الجنود والمدنيين يتبادلون فيما بينهم - على سبيل المثال في أفغانستان - مثل هذه الصور الفظيعة والمروعة مثل تبادلهم المجلات الإباحية أو صور نجوم كرة القدم…
تعتبر هذه الصور دائمًا وإلى حدّ ما صورًا غير إنسانية. لكن الحدث، أي الأمر الذي حدث في الواقع لهؤلاء الناس، هو بعينه الشيء الفظيع المرعب. وهذا هو الأمر الذي لا نكاد نحتمله، وليس الصورة بحدّ ذاتها. نحن نكوّن فقط صورًا عن هذا الواقع. والأحداث تكون دائمًا أسوأ بكثير مما يمكن أن تعرضه الصورة على الإطلاق. ولكن هذا لا يعني أنَّنا يجب ألاَّ ننشر هذه الصور.
يمكننا وصف ذلك دائمًا على أنَّه عمل بورنوغرافي أو تلصصي. بيد أنَّني في الواقع كثيرًا ما واجهت استخدام هذه الحجة كعذر لعدم الاضطرار إلى مشاهدة هذه الصور. ولكن لا يوجد عذر لعدم الاعتراف بهذه الصور وعدم مشاهدتها.
بعض هذه الصور جميلة جدًا من الناحية الفوتوغرافية. صور جميلة من الحرب - أليس هذا شيء مخالف للعقل؟
الحرب شيء مخالف للعقل؛ هذه الأشياء العجيبة التي تحدث في هذه الظروف ولا يوجد لها أي معنى على الإطلاق. والحرب شيء مرعب. ولكنني لا أستطيع التقاط صور سيئة، وذلك فقط لمجرّد أنَّ هذا الموضوع هو موضوع جاد للغاية. ولكن هذا لا يعني بالتالي أنَّنا نعتبر ما يحدث هناك أمرًا جيدًا. ومهمتي هي التقاط صور جيدة - ذلك لأنَّ لا أحد ينظر على أية حال إلى الصور السيئة. ما أريده هو أن يشاهد الناس في الواقع هذه الصور.
أنا لا أساعد أي شخص، بل أقوم فقط بتوثيق ما أراه وأشاهده، متوخيًا في ذلك الصدق والأمانة بقدر ما أستطيع -حتى وإن لم يكن ذلك أمرًا موضوعيًا على الإطلاق.
هل تجعلك الأحداث التي تراها وتشاهدها تبكي في بعض الأحيان؟
لا تُبكيني أنا، بل تبكي بعض الزملاء الآخرين. وبالنسبة لي كمصوّر تأتي دائمًا اللحظة العاطفية والصعبة في وقت لاحق: ميدانيًا على أرض الحدث يكون المرء منهمكًا كثيرًا في التركيز؛ إذ يحدث كلّ شيء بسرعة كبيرة، حيث يعمل المصوّر بشكل حدسي وبديهي ويحاول التقاط صورة جيدة من الناحية التقنية، ولا يكون لديه أي وقت للتفكير. ثم يأتي العمل الأصعب في وقت لاحق، عندما ينظر المصوّر إلى الصور التي التقطها، ويشاهد فعلاً حينئذ فقط ما شاهده أثناء عمله.
هذه الصور غير محفوظة فقط في كاميرتي أو على القرص الصلب في جهاز الكمبيوتر، بل هي موجودة أيضًا في رأسي. وهذا هو الصراع الذي يواجهه المصوّر. ولكنه كذلك نعمة: إذ إنَّ الكثيرين من الأشخاص الذين كانوا في هذه الظروف غير العادية - من الجنود أو حتى المدنيين في مناطق الحرب - يعودون من دون أي شيء معهم. من الصعب كثيرًا التعبير عما عاشوه في كلمات. ومن حسن حظي أنَّني أمتلك هذه الصور. فعندما يتعيَّن علي أن أروي لعائلتي أو أصدقائي ما شهدته في الحرب، لن أضطر إلى الحديث كثيرًا، بل يكفي ببساطة أن أعرض عليهم صوري.
حاورته: مونيكا غريبلر
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: دويتشه فيله/ قنطرة 2014
كريستوف بانغرت مصوّر وصحفي ألماني ولد عام 1978. درس التصوير الفوتوغرافي في مدينتي دورتموند الألمانية ونيويورك. يعمل في مناطق الحروب والأزمات بما فيها أفغانستان ودارفور وباكستان ونيجيريا والأراضي الفلسطينية. قام بتوثيق الحرب في العراق لصالح صحيفة نيويورك تايمز، وقد حاز حتى الآن على عدة جوائز عن أعماله الفوتوغرافية.