"احميني" مبادرة لحماية عاملات المزارع في تونس
١٨ مايو ٢٠١٩تتوجه خميسة العوجي بدعواتها إلى الله بأن يعيدها سالمة إلى ابنتها الوحيدة حينما تهم بمغادرة المنزل فجر كل يوم إلى الضيعات المنتشرة بمدينة تستور ذات المعمار والتاريخ الاندلسي بشمال غرب تونس.
تركب خميسة التي شارفت على عقدها الخامس كباقي العاملات الفلاحية شاحنة خفيفة وقوفا في الخلف، دون وجود حد أدنى من ضمانات السلامة. وتبدأ بعد ذلك رحلة المخاطرة من منطقتها الريفية فوق طرق نصف معبدة وأخرى مسالك فلاحية على مسافة لا تقل عن 20 كيلومتر حتى وصولها إلى الضيعة في تستور لتنطلق على اثرها في جمع المحاصيل الزراعية.
لا تختلف يوميات خميسة على امتداد الأسبوع، فبمجرد انتهاء عملها مع الساعات الأولى للصباح واشتداد الحر تسلك طريق العودة ذاته مع باقي العاملات على متن نفس الشاحنة بعد أن تكون قد استملت أجرتها المقدرة بـ17 دينارا لكن مع خصم حوالي ربع المبلغ لمالك الشاحنة المتعاقد مع صاحب الضيعة لتكون أجرتها الفعلية من دون ضمانات أو تأمين، في نهاية المطاف 13 دينارا (حوالي 4 أورو)، وهي تقارب في المتوسط نصف الأجرة اليومية للعامل في تونس.
تقول خميسة بنبرة منكسرة في حديثها مع DW عربية "ماذا ستكفي 13 دينارا. أسعار الدجاج والخضار مرتفعة وابنتي تدرس وزوجي مسن ولا يعمل. هذه مأساة وعذاب طويل لا ينتهي. ليس هناك مورد رزق آخر".
تعمل خميسة كامل أيام الأسبوع وترتاح يوم الأحد لكنها مع ذلك تستدرك قائلة "كل يوم أعمل في ضيعة لا أدري أين سأقضي الساعات. لكن إذا توفرت الفرصة فلا مفر من العمل كل يوم حتى الأحد. يجب أن أعمل باستمرار. لا وقت للراحة".
وقد تكون فاطمة الرزقي البالغة من العمر 56 عاما أوفر حظا من زميلتها خميسة، كونها تعيش مع والدها بعد أن هجرها زوجها، لكنها تضطر في ذات الوقت للخروج الى الضيعات لتأمين جزء من مصاريف البيت الذي يأوي أيضا شقيقها وزوجته وأطفاله الأربعة.
تقول فاطمة في حالة يأس لـDW عربية "أحاول الاستمرار في الحياة بهذا المبلغ البسيط وأتدبر أمري. نحن سبعة في المنزل والحياة صعبة جدا".
قوة ضامنة للأمن الغذاني تلزمها حماية
والمعاناة ليست حكرا على خميسة وفاطمة كما تشي بذلك قسمات وجهيهما، فهناك حوالي نصف مليون عاملة زراعية تنشط في مزارع تونس اليي يعتمد اقتصادها بشكل اساسي على القطاع الزراعي، ومع أنهن يمثلن ضمانة للأمن القومي الغذائي لتونس فإن أوضاعهن الاجتماعية الهشة لا تعكس دورهن الحساس ولا تقارن بعمال باقي القطاعات.
وتلك الأوضاع ظلت لوقت طويل بعيدة عن أنظار الإعلام والسلطة حتى جاءت الطامة الكبرى عندما حلت الكارثة في غفلة من الجميع. لتدفع عاملات المزارع كلفتها باهضة حينما أودت "شاحنات الموت" التي تقلهم يوميا الى الضيعات بحياة سبع منهن، من بين 12 عاملا توفوا في حادث واحد.
دفعت الكارثة أوضاع العاملات الى السطح، وهي صورة لا تتناسب مع الديمقراطية الناشئة وتاريخها الطويل بشأن تحرير المرأة وتخصيص حقوق ومزايا في القوانين لهن، بما لا يقارن مع حقوق النساء في المنطقة العربية. وقد اتخذت الحكومة تحت ضغط تلك الصورة خطوة سريعة بتبنيها مشروعا ناشئا قد يبعث بعضا من الأمل في نفوس العاملات ويبدد المجهول عن مستقبلهن.
تتخلص فكرة المشروع في وضع برنامج "احميني" وهي فكرة تقوم على ربط مئات الآلاف من العاملات في القطاع الزراعي بالمناطق الريفية البعيدة عن المدن، بخدمات الصناديق الاجتماعية بما يجعل وضعهن الصحي مؤمنا عند الحوادث أو المرض مع التمتع بحقوق التقاعد عند بلوغ السن القصوى للعمل. ويتم تطبيق هذه الفكرة بمجرد الانخراط والتسجيل عبر تطبيق الكتروني على الهواتف الذكية المحمولة دون عناء التنقل الى الإدارة في المدن.
تطبيق تحول إلى مشروع
يوضح الشاب ماهر الخليفي البالغ من العمر 36 عاما صاحب برنامج "أحميني" الذي حائز جائزة أفضل مشروع ناشئ في تونس قبل أن تتبناه الحكومة، قائلا لـ DW عربية "الفكرة هي أن لدينا أكثر من 90 بالمئة من النساء في الوسط الريفي لا تتمتع بتغطية اجتماعية بسبب بعد الإدارة كما أن المعلومة لا تصل الى المرأة الريفية. وهناك ظروف اقتصادية واجتماعية لا تخول للمرأة الريفية التمتع بالتغطية الاجتماعية".
وتابع الخليفي في حديثه "اليوم هذه المنظومة أصبح لها قانون ونحن وضعنا التكنولوجيا لنسهل على المرأة الريفية حتى تكون لها تغطية اجتماعية في برنامج "احميني"، سنذهب الى المرأة الريفية أينما كانت لنقوم بتسجيلها في هذا النظام".
في واقع الأمر تقف التجربة الشخصية للخليفي كعامل مؤثر في ابتكار برنامج "احميني" وتحوله الى فكرة قابلة للتطبيق وذات مصلحة عامة مؤكدة لشريحة واسعة من المواطنين، وهي أن والدة الشاب كانت من بين العاملات في القطاع الزراعي لكنها توفيت بعد أن تمكن منها مرض السرطان دون أن تفطن إليه ودون أن يكون لها الإمكانية للعلاج أو التمتع بالحق في خدمات الصحة العمومية.
من الناحية التقنية يشترط التطبيق الالكتروني الخاص ببرنامج "احميني" من كل مستفيدة اقتناء شريحة من "اتصالات تونس" التي ترعى المشروع، وتشحن بما مقداره 18 دينارا شهريا تدفع بالطريقة التي تختارها المستفيدة ليسمح لها بالتغطية الاجتماعية والحصول على دفتر علاج من دون أن تتنقل إلى الإدارة.
ليس "كافيا"
يعول المشروع على مساهمات رجال الأعمال والمجتمع المدني للتكفل بالمساهمات المالية للعاملات في المناطق الريفية ما يسمح بتخفيف العبء المالي عنهن، لكن في نظر عدد من المنظمات النسائية فإن برنامج "احميني" ليس كافيا لوحده للنهوض بالمرأة في الريف التونسي.
تشير يسرى فراوس رئيسة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات إلى إن الأطراف السياسية لم تلتزم بوعودها الانتخابية لتنمية المناطق المهمشة وهي مسؤولة اليوم عن توفير نقل للنساء الريفيات يضمن سلامتهن.
كما اتهمت سلوى كنو رئيسة جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية، السلطة بغياب الارادة السياسية الجادة للنهوض بواقع النساء الريفيات العاملات في القطاع الفلاحي وتمكين سكان المناطق المهمشة من أي ضمانات للعيش الكريم.
مع ذلك، ليس هناك خيار أفضل أمام خميسة وفاطمة من أن تكونا من بين المنتفعات منة برنامج "احميني"، لذلك كانتا من بين العاملات الأوائل اللاتي أقدمن على التسجيل في مقر المعتمدية بمدينة تستور في حفل دعي إليه وزير من الحكومة.
تقول خميسة بعد أن أنهت التسجيل في البرنامج لـDW عربية "قدم إلينا المعتمد الى الضيعة وطلب منا أن نأتي اليوم ونأتي بنسخ من بطاقة الهوية. أحمونا يحميكم الله. اليوم تخلفت عن العمل ولن أحصل على 13 دينارا. وغدا سأكون في المحطة منذ الساعة الثالثة فجرا من أجل العمل والتعويض".
تونس - طارق القيزاني